فصل في زمان ومكان الإحرام
وللإحرام زمان ومكان.
أما زمانه فقال الله سبحانه: ? الحج أشهر معلومات ? وهن شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة. قال الإمام الهادي إلى الحق المبين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام: ((لا ينبغي لمسلم أن يخالف تأديب الله سبحانه وتأديب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في أن يهلّ بالحج في غير وقته...)) إلى قوله: (( بل يجب عليهم أن ينتظروه، فمن أحرم [ أي قبل وقته] فقد أخطأ وأساء وخالف أمر ربه وتعدى، ويجب عليه ما أوجب على نفسه.)).
مسألة مفيدة: قلت: وثبوت الحكم لا ينافي التحريم كالظِّهار، فإنه يقع ويثبت له حكمه بالإجماع للنص القرآني وكطلاق البدعة على الصحيح. وبهذا يتضح أن ليس معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ما لم يكن عليه أمرنا فهو رد )) أنه لا حكم له، وللكلام على هذا مقام آخر.
نعم، والذي ذكره الإمام عليه السلام هو الذي يفيده الحصر في الآية الكريمة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (( ليس من السنة أن يحرم بالحج في غير أشهر الحج.)). أخرجه في الجامع الكافي عن محمد بن منصور، وأخرجه البخاري تعليقًا عن ابن عباس بلفظ: ((من السنة ألا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج.))، ووصله ابن خزيمة والدارقطني عنه بمعناه. وأما ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: ((تمام الحج والعمرة أن تحرم لهما من دويرة أهلك.)) فمحمول على من يمكنه في أشهر الحج. وقد حمله القاسم بن إبراهيم ومحمد بن منصور رضي الله عنهم على مَن كان مِن دون الميقات، روى ذلك في أمالي الإمام أحمد بن عيسى وفي الجامع الكافي (وهما المراد أينما أطلَقتُ الأمالي والجامع)، وتأويل هذا ونحوه أولى من تأويل الآية كما لا يخفى على ذي بصيرة. وقد رُويت روايات لا تقوى على معارضة الآية والأخبار الصريحة.(1/16)
المواقيت
وأما مكانه: فالمواقيت وهي:
لأهل المدينة المطهرة: ذو الحليفة على ستة أميال منها، وعلى مائتين غير ميلين من مكة المشرفة، عشر مراحل. وبها مسجد معروف، ويقال لها أبيار علي عليه السلام. وقد أضجرت هذه النسبة بعضهم - وهو ابن تيمية - فأنكرها في منسكه زاعماً أن أصلها دعوى أن أمير المؤمنين عليه السلام قاتل بها الجن، ونزهه من أن تثبت الجن لمقتالته، فجاء بما أعجب من الدعوى. وكم ينسب كثير من البقاع والبلدان ولم يتمحل لإبطالها مثل هذا التمحل. ثبتنا الله سبحانه على حب من حبه إيمان، ومن بغضه نفاق.
ولأهل الشام: الجحفة على اثنين وثمانين ميلاً ست مراحل من مكة وعلى نحوها من المدينة. وبها غدير خُم كما في النهاية وغيرها بإزاء رابغ.
ولأهل نجد: قرن المنازل على مرحلتين ويسمى الآن وادي السيل. ولما تحولت طريق السيارات صار أغلب من يرد الطائف يحرمون من وادي المحرم على التقدير. والراجح عندي الإحرام من الطائف احتياطًا لمن لم يمر من قرن المنازل.
ولأهل اليمن: يَلَمْلَم بفتح المثناة التحتية واللام وسكون الميم الأولى، على اثنين وثلاثين ميلاً مرحلتين من مكة المشرفة، ويسمى الآن السعدية من طريق الساحل.
هذه المواقيت عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلا خلاف، وقد صح أنه صلى الله عليه وآله وسلم وقّت لأهل العراق ( ذات عرق ) على مرحلتين.
والحرم: للحرمي، فإن أحرم من خارج الحرم فقيل يلزمه دم، والمذهب لا يلزم كمن قدّم الإحرام.(1/17)
وميقات مَن مسكنه خلف هذه المواقيت، أي بينها وبين الحرم، داره، أي موضعه، ولا يُحرِم مِن أقرب مِن داره إلى الحرم، فإن جاوز إلى الحرم بغير إحرام لزمه دم على المذهب. وكون هذه مواقيت من ذكر أفاده الخبر المتفق عليه عن ابن عباس رضى الله عنهما: ((ومن كان دونهن فَمَهِلّه من أهله.))، وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها. وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام: (( وميقات من كان دون المواقيت من أهله.)). وهذا قول القاسم بن إبراهيم وحفيده الهادي إلى الحق قال الإمام يحيى: وهذا رأي أئمة العترة؛ انتهى. وحكي عن أصحاب أبي حنيفة وأبي العباس أنه يُحرم من حيث شاء إلى الحرم المحرم.
وهذه المواقيت لأهلها ولمن ورد عليها ولساكنيها كما ورد في الأخبار النبوية: (( هن مواقيت لأهلهن ولمن أتى عليهن غير أهلهن.)). أخرجه الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام، وهو في الخبر المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومن ورد بين هذه المواقيت فميقاته ما حاذى أدناها إليه عرضًا، فإن كان لا يحاذي أحدها فعلى مسافة مرحلتين مسافة أقرب المواقيت إلى مكة المشرفة، يقدرها بغلبة الظن إن لم يمكن التحقيق.
تنبيه: معنى المحاذاة: وقيد المحاذاة بالعرض هو المعلوم. أما المقابلة طولاً فكل ميقات له مقابل إلى منقطع الأرض. وقد غلط فيها كثير للجهل بمعناها.
ومن لزمه الحج وهو خلف المواقيت فميقاته موضعه؛ فإن كان بمكة أحرم منها، وإن كان بمنى أو نحوها استحب له من مكة إن كان لا يخشى فوات الوقت.
فائدة: يجوز لساكني هذه المواقيت الدخول إلى الحرم لا لنسك بغير إحرام اتفاقًا.
تنبيه: ليس حكم الميل في هذه المواقيت حكمها، بل المعتبر الموضع المخصوص نفسه.(1/18)
فائدة: هذه المواقيت للإحرام بالحج والعمرة، ويستثنى من ذلك إحرام العمرة لمن بالحرم، فإنه يلزمه الخروج إلى الحل وأقربه التنعيم، حيث أمر صلى الله عليه وآله وسلم أن تخرج إليه عائشة للإحرام بالعمرة، فدل على تخصيص خبر المواقيت إذ ليس بنص في ميقات عمرة المكي، وإنما هو عموم مع رواية الإجماع على ذلك. وليس بعد بيانه صلى الله عليه وآله وسلم بيان، فلا معنى لما طول به ابن القيم وغيره من عدم لزوم ذلك، محتجًا بأنه لم ينقل ذلك إلا عن عائشة. وما أحسن ما أجاب به عليه في فتح الباري حيث قال: وبعد أن فعلته بأمره صلى الله عليه وآله وسلم دل على مشروعيته. والعجب من قول الأمير في المنحة: إنه بدعة، أي الخروج من الحرم. فيقال له: إن لم يكن أمره صلى الله عليه وآله وسلم سنة، فما هي السنة؟
نعم، فإن كان خلف المواقيت فميقاته داره، أي موضعه إن كان في الحل، وإلا وجب أن يخرج إليه. فإن أحرم بالعمرة من الحرم لزمه دم.(1/19)
فصل في حكم مجاوزة الميقات إلى الحرم المحرم
وتحرم مجاوزة الميقات إلى الحرم المحرَّم إلا بإحرام على الآفاقي، الحر، المسلم، المكلف، المختار، غالبًا.
قوله: إلى الحرم، احتراز من أن يجاوزه غير قاصد للحرم أو مترددًا في دخول الحرم، فلا يلزمه الإحرام إلا إذا عزم على الدخول لأحد النسكين، أحرم من موضعه كمن ميقاته داره.
فائدة: من جاوز الميقات مريدًا لدخول الحرم بعد إقامته مدة وإن طالت، لزمه الإحرام على المذهب. ورجح الإمام المهدي والفقيه حسن عدمه.
وقوله: الآفاقي، احتراز ممن ميقاته داره، إلا أن يقصد أحد النسكين، أو يأتي من خارج الميقات قاصدًا لمكة.
وقوله: الحر، احتراز من العبد ولو مكاتبًا أو موقوفًا.
وقوله: المسلم، احتراز من الكافر، فلا يصح منه الإحرام ولا يلزمه دم، خلافًا للشافعي. ومن جاوز الميقات ثم أسلم أو عتق، أحرم من موضعه إجماعًا.
وقوله: المختار، احتراز من المكره، ومن حصلت المجاوزة به وهو نايم أو مغمى عليه أو مجنون، فإنه بعد عود عقله لا يلزمه الإحرام، بل يجوز له دخول الحرم لا لنسك بغير إحرام. فأما السكران فهو لازم له، وكذا من جاوزه ناسيًا أو ظانًا أن الميقات أمامه فيلزمه على المذهب.
وقوله: غالبًا، احتراز من ثلاثة المرخص لهم بلا إحرام:
الأول: من عليه طواف الزيارة أو سعي العمرة أو بعضهما، أو الحلق أو التقصير في العمرة، فيجوز له الدخول بلا إحرام ولو قد طاف جنبًا أو حايضًا فيجوز له قبل اللحوق بأهله.
الثاني: الإمام وجنده، أو من يقوم مقامه إذا دخلوا لحرب الكفار أو البغاة.
الثالث: الدائم على الدخول والخروج كالحطاب والحشاش والسقاء، فلا يلزمهم إجماعًا. واختلف في تفسير الدايم، فقال في الانتصار: من يدخل في الشهر مرة؛ وقال الإمام أحمد بن الحسين: في العشر مرة؛ والمذهب: ما يسمى دايمًا عرفًا، وتثبت العادة بمرتين فيلزم الإحرام أوّل مرة.(1/20)