فصل في النسك الثاني عشر: طواف الوداع
ويقال له طواف الصَدَر، وصفته كطواف القدوم وركعتيه بلا رمل، وهو على غير المكي لأنه غير مودع، والحائض، والنفساء لورود النص ما لم تطهر قبل الخروج من ميل مكة، ومن فات حجه أو فسد إذ المقصود في الخبر الحج الصحيح، ومن نوى الإقامة بمكة لما سبق فهؤلاء لا يجب عليهم، إلا أن يعزم المكي قبل إتمام الحج على الخروج وكان مضربًا عن الرجوع. وهو لازم لغير المكي، وأما أهل المواقيت ومن ميقاته داره فيلزمهم على المذهب، ومن مات في مكة قبل طواف الوداع فعليه الإيصاء بدم. والقول بوجوبه هو مذهب الإمام الهادي والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، وعند الناصر للحق ومالك وغيرهما أنه سنة، ولا يلزم عندهم دم في تركه. وفي الجامع الكافي عن الباقر أنه قال: (( من خرج من مِنى ولم يطف للوداع فلا يضره.)). وألحق بعضهم سائر المعذورين بالحائض، قال أمير المؤمنين عليه السلام: (( من حج فليكن آخر عهده بالبيت إلا النساء الحُيَّض، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص لهن في ذلك.))، رواه الإمام زيد بن علي عن آبائه عليهم السلام. والأخبار في هذا كثيرة، منها عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( لا ينفرنّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت. ))، أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والبيهقي. وفي رواية: (( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.))، متفق عليه. وفعله صلى الله عليه وآله وسلم. روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أفاض من مِنى في اليوم الثالث - أي بعد يوم النحر بعد الظهر - إلى المحصب وهو الأبطح، فوجد قبته قد ضربت هناك، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة خفيفة، ثم نهض إلى مكة فطاف للوداعسحَرًا ولم يرمل، وصلّى الفجر في المسجد، وقرأ بالطور ثم نادى بالرحيل، فارتحل راجعًا إلى المدينة، فلما أتى ذا الحليفة - أي أبيار علي عليه السلام - بات بها، فلما رأى(1/171)


المدينة كبّر ثلاثًا وقال: (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ آيبون، تائبون عابدون، ساجدون، لربنا حامدون. صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.)). وحكمه في النقص والتفريق ما سبق في طواف القدوم. ويعيده من أقام بمكة أو ميلها ثلاثة أيام على المذهب، ومن اشتغل بعد الفراغ من ركعتي طوافه بشراء زاد أو صلاة جماعة لم يعده، إذ لا يعد متراخيًا. وعند عطاء أنه يعيده، وقال الشافعي وأحمد: إنه يعيده إن أقام بعده لتمريض ونحوه، وقال أبو حنيفة: لا يعيده ولو لشهرين، وقال الإمام المنصور بالله: له بقية يومه فقط. قال في الروض: وهو أقرب الأقوال. قلت: وهو الراجح، وهو الذي يفيده نص الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام كما يأتي، وفيه: من ودّع ثالث النحر أجزاه إجماعًا إن نفر. وأما يوم النحر فمذهب الهادوية والشافعي لا يجزي، ويحتج له بقوله: فليكن آخر عهده بالبيت، إذ الإضافة في عهده عهدية يراد بها عهده من المناسك إلى قوله: ويلزم على هذا ألا يصح في ثاني النحر. وقال العثماني من أصحاب الشافعي: إنه يجزي يوم النحر إذ هو مشروع للمفارقة، وهذا قد فارق. وأُجيب بأنه مشروع ليكون آخر عهده بالبيت وليجعله خاتمة مناسكه.(1/172)


فائدة: لا يجب الوداع على المعتمر. قال في البحر: لفعل علي عليه السلام وابن عمر وعائشة، وإذ لم يؤمر به في الخبر إلا الحاج. وفي تخريجه روي عن علي وابن عمر أنهما كانا يعتمران كل يوم مدة إقامتهما بمكة، ولم ينقل عنهما أنهما كانا يطوفان للتوديع، حكى ذلك في الانتصار، وساق خبر عائشة في عمرتها من التنعيم، ولم يذكر فيه أنها طافت للوداع. قلت: وهو المفهوم من قوله: من حج فليكن آخر عهده بالبيت، إلا أنه قد روي: من حجّ أو اعتمر فليكن آخر عهده الطواف بالبيت، رواه السيوطي، ورمز إلى أنه أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي عن الحرث الثقفي، وأخرج نحوه الترمذي عن ابن عباس. لكن الخبر الصحيح ليست فيه هذه الزيادة، ولم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عمره.(1/173)


فصل في دعاء طواف الوداع:
ما سبق في طواف القدوم من الأدعية والأذكار مستحبة في كل طواف ، فلهذا لم نكررها. ولم يختص طواف القدوم وكذا طواف العمرة إلا بالرمل في الثلاثة الأول، وكذا الاضطباع ووجوب السعي؛ فهذه الثلاثة غير مشروعة إلا في القدوم والعمرة، ولا يجب شيء من الأدعية والأذكار في شيء من الطوافات.
وقد استحسن هذا الدعاء في طواف الوداع، أن تقف في الملتزم - وهو بين الركن والباب - ويدك اليمنى ممدودة إلى الباب، واليسرى إلى الركن فتقول:
(( اللهم البيت بيتك، والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمَتِك، حملتني على ما سخّرت لي من خلقك حتى سيرتني في بلادك، وبلغتني بنعمتك، وأعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنتَ رضيتَ عني فازدد عني رضًا، وإلا فمن الآن قبل أن تنأ عن بيتك داري هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك. اللهم فأصحبني العافية في بدني، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي خيري الآخرة والدنيا إنك على كل شيء قدير.)).
ويفتتح هذا الدعاء ويختمه بالثناء على الله سبحانه، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو مستحب في غيره من الدعاء. وإن كانت حائضًا أو نفساء استحب لها أن تقف حول باب المسجد إن أمكن بدون زحام، وتدعو بهذا الدعاء أو غيره.(1/174)


وقال الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام: (( فإذا عزم على النفر، نفر من مِنى فأتى الكعبة فطاف بها سبعة أشواط، وصلى ركعتين، ثم استقبل القبلة، ثم قال: اللهم البيت بيتك، والحرم حرمك، والعبد عبدك، وهذا مقام العائذ بك من النار. اللهم اجعله سعيًا مشكورًا، وحجًا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وعملا متقبلاً. اللهم لا تجعله آخر العهد من بيتك الحرام الذي جعلته قبلة لأهل الإسلام وفرضت حجه على جميع الأنام. اللهم اصحبنا في سفرنا، وكن لنا وليًا وحافظًا. اللهم إنا نعوذ بك من كآبة السفر، وسوء المنقلب، وفاحش المنظر في أهلنا وأولادنا ومالنا ومن اتصل بنا من ذوي أرحامنا وأهل عنايتنا. اللهم لك الحمد على ما مننت به علينا من أداء فرضك العظيم، ولك الحمد على حسن الصحابة والبلاغ الجميل. اللهم لا تشمت بنا الأعداء، ولا تسوء فينا الأصدقاء، ولا تكلنا إلى أنفسنا. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا. ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غرامًا، إنها ساءت مستقرًا ومقامًا. ثم تدخل زمزم فتشرب من مائها، وتطلع فيها وتقول: اللهم أنت أخرجتها وجعلت الماء فيها، وأقررته وأسكنته في أرضها تفضلاً منك على خلقك بما سقيتهم منها، ومننت عليهم بما جعلت من البركة فيها، فاسقنا بكأس محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم الظمأ، واجعلنا من حزبك وحزبه، وأدخلنا في زمرته، وامنن علينا بشفاعته، وسكنَّا في جواره، وامنن علينا في الآخرة بقربه، واحشرنا يوم الدين على ملّته، إياك وحّدنا، وإليك العدل في كل أفعالك نسَبْنا، وبجميع وعدك ووعيدك صدّقنا، وسنة نبيك اتّبعنا، وإياك على أداء جميع فرضك استعنّا، فأعنَّا بعونك، وافتح لنا أبواب رحمتك، ووسّع علينا في الأرزاق، وارفق علينا بأعظم الإرفاق.)).(1/175)

35 / 57
ع
En
A+
A-