فصل في النسك العاشر: المبيت بمنى
هو ليلة ثاني النحر وثالثه، وأما ليلة الرابع فيجب المبيت إن دخل فيها غير عازم على النفر في ليلته، بل هو عازم على المبيت أو متردد.
حد منى من العقبة إلى وادي محسر، ولا تدخل العقبة ووادي محسر فيها، وهو عند العترة والشافعي ومالك فرض، وعند أكثر الحنفية مستحب. واستدل المؤيد بالله في شرح التجريد والمهدي في البحر بخبر ابن عباس رضي الله عنهما: (( لم يرخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأحد أن يبيت ليالي منى بمكة إلا للعباس من أجل السقاية.)). وفي شرح التجريد قال أبو العباس: (( روى القاسم وساق سنده الصحيح إلى علي عليه السلام أنه كان ينهى عن المبيت وراء الجمرة إلى مكة.)). وفيه وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن عباس أنه قال: (( لا يبيتن أحدكم وراء العقبة ليلاً أيام التشريق.))، وروى بإسناده عن عمر أنه كان ينهى أن يبيت أحد وراء العقبة، وكان يأمرهم أن يرتحلوا إلى منى، وفيه: وروى هناك بإسناده عن ابن عمر حين سئل فقال: (( أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبات بمنى وظل...))، وفعله في الحج على الوجوب لما بيناه... ))، إلى آخره. وقد جعله الإمام المؤيد بالله عليه السلام أقوى من الرمي وقال: (( ولا خلاف أن من ترك الرمي يلزمه دم.)). قال: (( وذهب الشافعي إلى أن من بات بغيرها ثلاث ليال لزمه دم.)).
الواجب في المبيت
قلت: والمذهب أن الواجب المبيت أكثر الليل. وأما النهار فغير واجب لظاهر الأخبار في ذكر المبيت، والذي يفيده كلام الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام وجوب الوقوف بمنى الليل والنهار. وقد حصله المؤيد بالله عليه السلام للمذهب، قال في شرح التجريد: (( فكان تحصيل المذهب أن من حصل أكثر ليله أو أكثر نهاره في مكة يلزمه هدي.))، انتهى.
وهو الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما في خبر ابن عمر: (( فبات بمنى وظل.))، وهو الأحوط والأفضل بلا ريب.(1/161)
المرخص لهم بترك الوقوف بمنى :
أما من له عذر فهو مرخص له في ترك الوقوف بالليل والنهار. فقد رخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للعباس رضي الله عنه كما سبق. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( استأذن العباس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له.))، رواه البخاري ومسلم، ومثله عن ابن عمر. وفي أمالي أحمد بن عيسى بسنده عن الباقر قال: (( رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للرعاة أن يرموا ليلاً…))، الخبر. وعن عاصم ابن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص لرعاة الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغداة، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر؛ رواه الخمسة وصححه الترمذي. وفي رواية: رخص للرعاة أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا؛ رواه أبو داود والنسائي. والصحيح أنه يلحق بالعباس والرعاة سائر أهل الأعذار. وفي الشرح نقلاً عن الانتصار والشفا: (( فأما من له عذر كمن يشتغل بمصلحة عامة للمسلمين، أو أمر يخصه من طلب ضالة أو مرض أو نحو ذلك فلم يجب عليهم المبيت بمنى، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم رخص في ذلك للعباس لأجل السقاية ورخص للرعاة.))، انتهى. حكم أهل الأعذارلكن أهل المذهب ومن وافقهم يوجبون عليهم الدم عملاً بعموم ما روي: (( من ترك نسكًا فعليه دم...))، الخبر السابق. والمختار عدم الوجوب، إذ لم ينقل أنه ألزمهم بالدم، وهو في مقام البيان، واختاره الإمام يحيى والأمير الحسين، وقد سبق الكلام على من ترك نسكًا.
فرع: وفي ترك المبيت كله أو ليلة منه أو ليلتين متواليتين دم واحد، إلا أن يتخلل الإخراج فثلاثة دماء عن الثلاثة . وحكم ترك نصف ليلة كتركها، ومبيت أكثر الليلة كمبيتها، وهذه صورة النقص. وأما التفريق فمثاله أن يترك الليلة الأولى والثالثة ويبيت الوسطى، فيلزم دمان للنقص والتفريق.(1/162)
فصل في ذكر الله في منى
ينبغي الإكثار من ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن في هذه الأيام الفاضلة والأماكن المقدسة، كما قال جل جلاله: ? ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ? ، ? واذكروا الله في أيام معدودات ?. روى الإمام زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام قال: (( أيام النحر ثلاثة أيام، يوم العاشر من ذي الحجة، ويومان بعده في أيها ذبحت أجزاك، وأشهر الحج ثلاثة، وهي قول الله عز وجل: ? الحج أشهر معلومات ?، شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. والأيام المعلومات أيام العشر، والأيام المعدودات هي أيام التشريق.(1/163)
فصل في النسك الحادي عشر: طواف الزيارة
روى الإمام زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام في قوله تعالى: (( ? ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطَّوَّفوا بالبيت العتيق ? قال: هو طواف الزيارة يوم النحر، وهو الطواف الواجب. فإذا طاف الرجل طواف الزيارة حل له الطيب والنساء، وإن قصر وذبح ولم يطف حل له الطيب والصيد واللباس، ولم يحل له النساء حتى يطوف بالبيت.))، انتهى. ويسمى طواف الإفاضة، وطواف الركن لأنه أحد أركان الحج، وطواف النساء. وصفته كطواف القدوم وركعتيه، إلا أنه لا رمل فيه. قال في شرح التجريد: (( ولا خلاف في أنه فرض، ولا يجبر بغيره، ولا خلاف أنه لا رمل فيه ولا سعي بعده...))، إلى آخره. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه، أخرجه أبو داود وابن ماجه. ويفعل فيه من الأذكار ما سبق، ولا يفوت الحج بفواته، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الحج عرفات ))، ولا يجبر بالدم إجماعًا، بل يجب العود له ولأبعاضه والإيصاء به لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في خبر صفية لما حاضت: (( أحابستنا هي. ))، فقالوا: إنها قد أفاضت، قال: (( فلا إذن. ))، أخرجه الستة بروايات. وفي الجامع الكافي قال محمد: (( بلغنا عن علي صلوات الله عليه فيمن ترك الطواف الواجب قال: يرجع ولو من خراسان.)). وفي الأحكام: (( روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: يرجع من نسي طواف النساء ولو من خراسان. قال يحيى بن الحسين: وإن جامع النساء قبل أن يرجع ويطوف ذلك الطواف فعليه بدنة.)).(1/164)
فصل في وقت طواف الزيارة
ووقت أدائه من فجر يوم النحر عند العترة وأبي حنيفة ومالك، واستدل على ذلك بخبر أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسل بها ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون عندها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ أخرجه أبو داود والبيهقي. وفيه رواية أخرى وألفاظ وقد صحح، وليس فيه تصريح بالطواف في الفجر مع احتمال أن يكون لعذر. واستدل في البحر بفعله صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يفيد، إذ طوافه صلى الله عليه وآله وسلم متأخر عن الفجر، والأَولى الاستدلال بقول أمير المؤمنين عليه السلام السابق في تفسير الآية: (( هو طواف الزيارة يوم النحر...))، الخ، مع أنهم رووا الإجماع على أن يوم النحر وقت له، وخلاف الشافعي في جوازه من نصف ليلة النحر لا يضر، وآخره آخر أيام التشريق. وعند أبي حنيفة: إلى ثاني التشريق كالأضحية. وأجاب في البحر بأنه عبادة تختص بالحج يحصل بها التحلل، فامتدت إلى آخر وقته كالرمي. واختار الجلال في ضوء النهار أن آخره شهر ذي الحجة بناء على أنه بكماله من أشهر الحج. والصحيح أن العشر من أشهر الحج فقط كما سبق. نعم ويلزم دم لتأخيره أو بعضه عن أيام التشريق لعذر أو لغير عذر، فلو غربت شمس آخر يوم منه وقد بقي منه شوط أو بعض شوط لزمه دم. وذكر الأمير الحسين بن بدر الدين عليهما السلام أن من أخّره لعذر كالحائض فلا دم عليه. قال الإمام المهدي عليه السلام: ويقاس عليها المعذورون. قلت: وهو قوي.
وإنما يحل الوطء بعده كاملاً.(1/165)