ويصح راكبًا وراجلاً، واختلف في الأفضل، فعند الناصر والإمام يحيى والفريقين: الراكب لفعله صلى الله عليه وآله وسلّم، وعند القاسم والهادي: الراجل لتقديمه في قوله تعالى: ? يأتوك رجالاً ?، وفعله صلى الله عليه وآله وسلّم لعذر. قلت: والأظهر أنه ليتمكن الجميع من رؤيته صلى الله عليه وآله وسلّم؛ عن جابر قال: (( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول : (( لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه )) ))، أخرجه أحمد، ومسلم، والنسائي. وقد سبق ذكر التكبير. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى، فجعل البيت عن يساره، ومِنى عن يمينه ورمى بسبع، وقال: (( هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورة البقرة.))، متفق عليه. وفي رواية لأحمد أنه انتهى إلى جمرة العقبة، فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات وهو راكب يكبر مع كل حصاة، وقال: (( اللهم اجعله حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا.))، ثم قال: (( ههنا كان يقوم الذي أُنزلت عليه سورة البقرة.)). وفي الجامع الكافي من كلام محمد: (( فإذا أتيت مِنى فضع رحلك بها، وتوضأ إن لم تكن متوضئًا، والغسل أفضل. ثم ائت جمرة العقبة - وهي أقرب الجمرات إلى مكة - وارمها من بطن الوادي بسبع حصيات.)). وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. وفي الأحكام: (( فإذا انتهى إلى مِنى، فليمضِ على حاله حتى يأتي جمرة العقبة من بطن منى فيرميها بسبع حصيات، يقول مع كل حصاة: لا إله إلا الله، والله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً. ثم ليقطع التلبية مع أول حصاة رمى بها...))، إلى آخره.
قلت: وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة في خبر الفضل بن العباس وأسامة بن زيد، وكان أسامة رديفه من عرفة إلى مزدلفة، والفضل من مزدلفة إلى منى.(1/146)


فصل في الاحلال بعد الرمي
ويحل بعد رمي جمرة العقبة كل محظورات الإحرام غير الوطء، ولاشيء في مقدماته ولو أمنى على المذهب إلا الإثم. وقيل لا إثم، وهو ظاهر الأزهار، والأحوط الترك. ولا يتحلل برمي غير جمرة العقبة لا في اليوم الأول ولا الثاني ولا الثالث. وعند مالك: لا يحل الطيب إذ هو من توابع النكاح. وألحق الليث الصيد بالنساء لإشراكهما في التكفير.
فائدة: والتحليل يقع بأول حصاة، ولو لم يتم الرجم على المذهب، وفي البحر ما لفظه: العترة والفريقان، وبعد الحلق السيد يحيى، أو الرمي بأول حصاة يحل كل محظور إلا النساء لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم : (( إذا رميتم وحلقتم... )) الخبر. قال في التخريج: تمامه فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء، هكذا في الشفاء، انتهى. قلت: وأخرجه بدون الثياب أحمد وأبو داود والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة، وأخرج أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث أم سلمة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( هذا يوم رخص لكم فيه إذا رميتم الجمرة ونحرتم الهدي أنكم قد حللتم من كل شيء إلا النساء حتى تطوفوا بالبيت. ))، أفاده في الروض. وفي المجموع عن علي عليه السلام: (( فإذا طاف الرجل طواف الزيارة، حَلَّ له الطيب والنساء، وإن قصر وذبح ولم يطف طواف الزيارة حَلَّ له الطيب واللباس، ولم يحل له النساء حتى يطوف بالبيت.)). قال في الروض: فهو تصريح بأن الطيب ونحوه من محظورات الإحرام ما عدا النساء قد حل بالتقصير والذبح المترتبين على الرمي وإن لم يذكره، فقد صرح به عليه السلام فيما يأتي من قوله - أي علي عليه السلام - : ((أول المناسك يوم النحر رمي الجمرة، ثم الذبح، ثم الحلق، ثم طواف الزيارة...))، إلى آخره. قال قوله: (( إن قصر وذبح يشعر بأنه لا بد من مجموع الأمرين - يعني بعد الرمي - وأنه يقع التحلل بذلك. ثم نقل عن البدر التمام أنه لا قائل بمجموع الأمرين، فتحمل رواية الجمع على أن الأحسن(1/147)


أن يفعل الحلق بعد الرمي، وإن لم يكن لازمًا.))، انتهى. وفي سبل السلام: ( والظاهر أنه مجمع على حل الطيب وغيره إلا الوطء بعد الرمي وإن لم يحلق.))، انتهى.
قلت: وفي الإجماع نظر، والأحوط عندي فعل الجميع قبل الإحلال لظاهر هذا، ولمفهوم الخبر السابق: إذا رميتم وحلقتم، وإذا رميتم الجمرة ونحرتم الهدي. والمقصود به الهدي الواجب. وقد اختار بعض الأئمة أنه لا يحل إلا بعد الرمي والحلق. والمذهب أنه يحل بالرمي بأول حصاة كما مر. وعند المؤيد بالله عليه السلام: أنه يندب تقديم الرمي ثم الذبح ثم الحلق أو التقصير، وان أي الثلاثة فعل بعد فجر النحر فقد حلت له المحظورات ماعدا الوطء. فللمجتهد نظره، وغيره يكفيه قول من تترجح له متابعته من الأعلام ? لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ?.(1/148)


تنبيه: أهل المذهب وبعض الأئمة لا يوجبون الحلق أو التقصير في الحج. وعند الإمام الناصر والمؤيد بالله وأبي طالب وأبي حنيفة والشافعي ومالك: أنه نسك واجب، وهو المختار لظاهر الأدلة، ولفعله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال:(( خذوا عني مناسككم )). وقال أمير المؤمنين عليه السلام: أول المناسك يوم النحر رمي الجمرة ثم الذبح ثم الحلق، كما سبق. وفائدة الخلاف أن من جعله نسكًا يوجب حلق الرأس أو التقصير، ويوجب لتركه دمًا، ويجيز تقديمه على الرمي وغيره، وتقديم الرمي عنده مندوب لا غير، ويقع الإحلال به. وعلى القول بأنه غير نسك العكس. والأفضل الحلق لأنه صلى الله عليه وآله وسلم دعا للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة واحدة كما رواه أمير المؤمنين عليه السلام وغيره. والمشروع للنساء التقصير، أخرج الترمذي عن علي عليه السلام: (( نهى أن تحلق المرأة رأسها.)). وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: (( ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير.))، وهذا مجمع عليه وهو في حقهن مُثلَّه، فإن حلقن أجزأ؛ ذكره في حواشي الأزهار، وسيأتي تمام الكلام عليه في العمرة لأنه نسك فيها بالاتفاق.
مسألة: من قدّم طواف الزيارة، حلّ له جميع المحظورات من وطء وغيره.
الدليل على حل كل شيء من محظورات الإحرام بطواف الزيارة:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: (( فإذا طاف الرجل طواف الزيارة حلّ له الطيب والنساء...))، ولم يفصل بين تقديمه وتأخيره. ومفهوم الشرط في تحريم الطيب قبل الطواف غير مأخوذ به لمنطوق ما تقدم من قوله: (( حل له الطيب واللباس ))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: (( إذا رميتم..)) الخبر المتقدم.(1/149)


ولا دم للترتيب بينه وبين الرمي، لأنه غير نسك. وحكى في حواشي الشرح عن المنصور بالله لزومه. ويدل على عدم اللزوم الأخبار المروية في رفع الحرج عن التقديم والتأخير، منها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: زرت قبل أن أرمي، قال :(( لا حرج )) ؛ أخرجه البخاري، وسيأتي لهذا مزيد.(1/150)

30 / 57
ع
En
A+
A-