فصل في المسنون والمستحب قبل الوقوف وحاله
فيما يُسنّ فعله أو يستحب قبل الوقوف وحاله وبعده، في خبر الصادق عن أبيه عن جابر رضي الله عنهم قال: (( فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلّوا بالحج.))،
قلت: والمراد من كان أحل، فأما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام الذي أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان قارناً فلم يحلا. وقد ساق علي عليه السلام معه بدناً من اليمن كما في حديث جابر، فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة، وفيه : (( فَحلَّ الناس كلهم، وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن كان معه هدي.)). قلت: وفيه قبل هذا: (( فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة...)) الخبر. وهذا هو فسخ الحج إلى العمرة، وهو عند أئمتنا والجمهور مخصوص بأولئك الركب. ففي الجامع الكافي قال أبو ذر وغيره من الصحابة: (( كان فسخ الحج خاصاً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.))، انتهى. وأخرج أبو داود عن أبي ذر: (( لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.))، وأخرجه مسلم في صحيحه عنه بمعناه، وكذا النسائي. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن بلال بن الحارث قال: (( قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( بل لنا خاصة )).))، وأخرج أبو داود عن عثمان: (( كانت لنا ليست لكم.)). هذا هو المراد باختصار.(1/116)
(( وركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة.)). قلت: وفي الجامع الكافي بلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قام بين الركن والباب حين زالت الشمس فوعظ الناس فقال: (( إنا نصلي الظهر بمنى، فمن استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى فليفعل. ))، ثم توجه إلى منى فصلى بها خمس صلوات آخرهن صلاة الفجر يوم عرفة. قال محمد: (( وذلك واسع على الناس، كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مضى معه قوم وتلاحق به آخرون، ولم يعب على أحد منهم.)).
فائدة: يستحب حال التوجه إلى منى قراءة سورة القدر والإكثار من التلبية والذكر، ويقول: (( اللهم إياك أرجو، وإياك أدعو، فبلغني أملي، وأصلح لي عملي.)).
فإذا بلغت منى فقل: (( الحمد لله الذي أقدمنيها صالحًا، وبلغنيها في عافية سالمًا. اللهم هذه منى وهي مما مننت به علينا، فأسألك أن تمن علي بما مننت به على أنبيائك وأوليائك وأهل طاعتك، فإنما أنا عبدك وفي قبضتك، أستغفرك وأتوب إليك، وصلّ على محمد وآل محمد، واغفر لي ذنوبي ولوالدي وما ولدا، واقضِ لي حوائجي، فأنت المرجو وأنت البر الرحيم.)).(1/117)
وتكبّر تكبير التشريق بعد صلاة الفجر إلى صلاة العصر، اليوم الرابع آخر أيام التشريق يوم النفر الآخر، والمختار أنه فرض بعد الفرايض لورود الأمر به، وهو قول الإمام زيد بن علي والمؤيد بالله والمنصور بالله عليهم السلام مرة واحدة. والمذهب أنه سنة مؤكدة عقيب الفرايض، ويستحب ثلاث مرات، وهو: (( الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.)). هذا اللفظ الذي صحت به الرواية عن علي عليه السلام، واستحسن الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام زيادة: (( والحمد لله على ما هدانا وأولانا، وأحل لنا من بهيمة الأنعام.))، لقوله تعالى: ? ولتكبّروا الله على ما هداكم ?، وقوله تعالى: ? وليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ?. واستحسن غيره من الصحابة والأئمة نحو ذلك، وباب الذكر مفتوح.(1/118)
ومما استحسن حال التوجه إلى عرفات قراءة فاتحة الكتاب وسورة القدر، ثم تقول: (( اللهم إليك صمدت، وإياك اعتمدت، ووجهك أردت، وأمرك اتبعت، وقولك صدقت، أسألك أن تبارك لي في رحلتي، وأن تقضي لي حاجتي، وتُنجِح لي طلبتي، وتباهي بي اليوم من هو أفضل مني. اللهم صلّ على محمد وآله، وأعنّي على تمام مناسكي، وزكِّ عملي، واجعلها خير غدوة غدوتها، وأقربها من رضوانك، وأبعدها من سخطك.)). ثم تلبي وترفع صوتك رفعاً متوسطاً، وعليك بالسكينة والخشوع والوقار والخضوع. قال في خبر الصادق عليه السلام: (( فسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...))، إلى قوله: (( حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى فرُحِّلَت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: (( إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا... )). ...))، إلى آخر الخطبة النبوية التي قرر فيها معالم الإسلام، وهدم قواعد الشرك والجاهلية، وحرم المحرمات التي أجمعت الملل على تحريمها، الدماء والأعراض والأموال وغير ذلك. وكانت خطبة واحدة، وأسرّ القراءة في الصلاة. : فدل على أنه لا جمعة على المسافر، وقد صلى الجميع بصلاته صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين، أهل مكة وغيرهم. وهذا من أقوى الأدلة على القصر في البريد. قال في الخبر الشريف: (( ثم أذّن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، ولم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص.)).(1/119)
قلت: ويظهر أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما اختار الوقوف راكباً مع كونه أشق عليه ليراه المسلمون وتتضح لهم كل أفعاله وأقواله وجميع أعماله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان موقفه صلى الله عليه وآله وسلم أسفل الجبل المسمى جبل الرحمة عند الصخرات، فيستحب الوقوف فيه أو القرب منه حسب الإمكان بدون مشقة ولا زحام. وأما صعود الجبل فلا معنى له.(1/120)