وارتفعوا عن بطن عرنة، وكل المزدلفة موقف وارتفعوا عن بطن محسر، وكل منى منحر إلى ما وراء العقبة )). وأخرج مالك في الموطأ بلاغاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن محسر )). وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( نحرت ها هنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم. وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف )). وأخرج أحمد وابن ماجه نحوه وفيه: وكل فجاج مكة طريق ومنحر.
وقت الوقوف:
وأول وقته من ظهر يوم عرفة، إذ لم يقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد الزوال. وعند أحمد بن حنبل: من فجره تمسكاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الخبر : (( وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهارًا.))، فقد تم حجه. وأجيب بأن المراد بالنهار ما بعد الزوال، بدليل أنه صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم يقفوا إلا بعد الزوال، فكأن الجمهور جعلوا هذا الفعل مخصصًا لذلك، ولعله إجماع من قبل أحمد. وآخره فجر النحر بلا خلاف.(1/111)


فمن وقف في أي ساعة من هذا الوقت أجزاه. وعند مالك: لا يجزي النهار وحده، والخبر صريح بخلافه، ويكفي المرور على أي صفة كان ولو نايماً أم مجنونًا أم مغمىً عليه أم سكران أم راكبًا لمغصوب أم مُكرهًا. ويشترط أن يكون بكلية بدنه مستقرًا، لا على طير أو طائرة لعدم الاستقرار، ولا يشترط أن يستقر قدر تسبيحة لما في خبر عروة بن مضرس: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من شهد معنا هذه الصلاة صلاة الفجر بمزدلفة وقد كان وقف بعرفة ليلاً أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه. ))، أخرجه المؤيد بالله في شرح التجريد، وأخرجه أبو داود والترمذي، وصححه النسائي وابن ماجه والبيهقي بلفظ:(( من صلى معنا في الغداة، ووقف معنا حتى نفيض، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه. ))، وصححه الدارقطني والحاكم. وفي المجموع عن علي عليه السلام: (( من فاته الموقف مع الناس فأتاها ليلاً، ثم أدرك الناس في جمع قبل انصراف الإمام فقد أدرك الحج.)). ففي ذلك دلالة على أن مجرد الإتيان إلى عرفة يكفي، وهو يصدق بالمرور على أي صفة، ولكن مفهومه يفيد أن صلاة الغداة والوقوف بمزدلفة ركن لا يتم الحج ولا يدرك إلا به. وقد ذهبت طائفة إلى ذلك، وذهب الجمهور إلى أن الحج يصح بدونه، وحمل الخبر على إدراك الحج التام، وكذا ما في بعض من زيادة: (( ومن لم يدرك جمعًا فلا حج له. )) على نفي الكمال، مع أن هذه الزيادة ضعيفة، والموجب للتأويل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الحج عرفات. )) ثلاثًا، (( فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك. ))، أخرجه المؤيد بالله في شرح التجريد. وفي الجامع الكافي قال محمد: بلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( من وقف بعرفة ليلة النحر ساعة من الليل قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج. )). فبهذا يأخذ عامة العلماء؛ انتهى. قالوا: والمعنى أن المعتبر من أعمال الحج التي لا يتم إلا بها عرفة، ولا يصح إلا(1/112)


بالإحرام. ولا يرد ما قاله في المنحة من أنه إن جعل الحصر حقيقيًا لزم أن لا يفوت الحج إلا بفوات الوقوف... إلى آخر كلامه، لأنا نقول ملتزم أنه لا يفوت الحج إلا بفوات الوقوف الشرعي، وهو لا يكون إلا بالإحرام الذي هو شرطه.
مسألة: ولا يدفع من وقف بالنهار حتى تغرب الشمس، لما في خبر الصادق عن أبيه الباقر عن جابر رضي الله عنهم : (( فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص.)). وفي مجمع الزوائد عن المسور بن مخرمة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (( أما بعد، فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هذه المواضع إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كعمايم الرجال في وجوهها، وإنا ندفع بعد أن تغيب، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام إذا كانت الشمس منبسطة ))، قال: وأخرجه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات، أفاد هذا في تخريج الشفاء. وفي الروض: ورجاله رجال الصحيح. وقد صح أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يدفع إلا بعد الغروب.
فرع: فإن دفع قبل الغروب لزمه دم، خلاف الناصر. فإن رجع ودفع بعد الغروب لم يسقط الدم على المذهب، وعند أبي حنيفة والسيد يحيى والفقيه يحيى يسقط، وروي في شرح الإبانة والبحر الإجماع على سقوطه. قال في الشرح: (( أما لو خرج من الجبل غير قاصد للإفاضة بل لحاجة من استسقاء أو قضاء حاجة أو طلب ضالة وفي نفسه الرجوع فلعله لا يلزمه الدم إجماعًا.)). قال الإمام المهدي: وهو قريب، قلت: وهو المختار، وأما على المذهب فيلزم.
فرع: فلو تقارنت الإفاضة وغروب الشمس لزم دم، وكذا لو التبس، لأن الأصل بقاء النهار، فإن مات قبل الغروب لزم لترك بقية النهار، وكذا لباقي المناسك إلا طواف الزيارة فلا يجبره الدم، فان لم يقف إلا ليلاً أجزاه ولا يلزمه شيء.(1/113)


فصل: في التباس يوم عرفة
فإن التبس يوم عرفة تحرى، فإن وقف من غير تحرٍّ فلا يخلو إما أن تنكشف له الإصابة أو لا؛ إن انكشفت له الإصابة أجزاه، وإن انكشف له الخطأ لم يجزه ويتحلل بعمرة. وإن بقي اللبس قال الإمام المهدي عليه السلام: فالأقرب أنه لا يجزيه، ويبقى محرمًا حتى يتحلل بعمرة.
وأما إذا تحرى فلا يخلو إما أن يحصل اللبس بين التاسع والعاشر، أو بين التاسع والثامن؛ إن وقع بين التاسع والثامن فلا يخلو إما أن يحصل له ظن أو لا، إن لم يحصل له ظن فقد قال كثير من المذاكرين إنه يجب عليه أن يقف مرتين ويفيض اليوم الأول ويعمل بموجبه، ثم يعود اليوم الثاني فيعمل بموجبه، وإن حصل له ظن فالواجب عليه أن يعمل بظنه، ويستحب له أن يقف يومين ليأخذ باليقين، فإن لم يقف إلا يومًا فإن لم ينكشف له الخطأ أجزاه، وإن انكشف له الخطأ وأنه وقف الثامن وكان ظنه تاسعًا، فإن علم ذلك في يوم عرفة أو ليلة النحر وقد بقي من الوقت ما يتسع لقطع المسافة إلى الجبل لزمته الإعادة، وإلا فقد أجزاه وقوف الثامن ولا دم عليه. وأما إذا وقف يومين فهو الاحتياط، ولا إشكال أن الوقوف قد أجزاه. وأما إن كان اللبس بين التاسع والعاشر فإنه يتحرى، فإن لم يحصل له ظن قال الإمام المهدي: فظاهر كلام الأصحاب أنه يقف يومين أيضًا لما تقدم.
قلت: وهو المذهب وهو على ظاهره غير صحيح كما ذكر ذلك الإمام المهدي، إذ لا وجه لوقوف يومين في هذه الصورة. قال: لكن الواجب عليه أن يقف هذا اليوم الذي وقع فيه اللبس، هل هو تاسع أم عاشر؟ فإن انكشف أنه تاسع أجزاه، وإن انكشف أنه عاشر ولم يكن قد حصل له ظن فالأقرب أنه يجزيه، إذ لا يقف إلا لظن وبناء منه على الأصل.(1/114)


قلت: والمذهب أنه إن وقف لا بظن ولا بناء على الأصل لم يجزه، ومتى عمل بظنه أجزاه ما لم يتيقن الخطأ والوقت باقٍ، فإن تيقن الخطأ من بعد أن وقف العاشر أجزاه على المذهب خلاف أبي حنيفة، وتوخر الأيام في حقه على الصحيح، ولا تلزمه الدماء.
والحاصل أنه لا يخلو إما أن يقف بتحرٍّ أم لا، إن وقف بغير تحرٍّ لم يجزه إلا أن تنكشف الإصابة لأنه لا بد من اليقين، وإن كان بتحرٍّ فإنه يجزيه ما لم يتيقن الخطأ والوقت باقٍ، وحيث يجزيه تأخر الأيام في حقه ولا دم عليه على الأصح للإجماع، ولا فرق بين الثامن والتاسع والعاشر، هذا هو المقرر للمذهب.(1/115)

23 / 57
ع
En
A+
A-