فائدة: روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن هاجر أم اسماعيل لما أسكنهما ابراهيم عليه السلام في مكة، ونفد ما معهما من الماء، صعدت الصفا تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، فنظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، فلذلك سعى الناس بينهما، انتهى.
وأصل الرمل في الطواف أن المشركين قالوا: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم صلى الله عليه وآله وسلم أن يرمّلوا الأشواط الثلاثة. قالوا: والحكمة في بقاء ذلك هو استحضار الوقائع الماضية للسلف الكرام لما فيه من المصالح الدينية. وبهذا يظهر أن كثيرا من أعمال الحج التي يقال فيها إنها تعبدية لا تظهر وجه الحكمة فيها ليست كذلك، فإنا إذا تذكرنا أسبابها حصل لنا تذكر ما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله سبحانه، وكان هذا التذكر باعثًا لنا على مثل ذلك، ومقررًا في أنفسنا تعظيمهم. وإذا تذكرنا قصة هاجر مع ابنها وترك الخليل لهما في ذلك المكان الموحش منقطعي أسباب الحياة بالكلية، وتذكرنا ما أظهره الله عز وجل من الكرامة من إخراج الماء لهما، كان في ذلك مصالح عظيمة، وكذلك في الجمار إذا فعلناه فتذكرنا أن سببه رمي إبليس بالجمار في هذه المواضع عند إرادة الخليل ذبح ولده عليه السلام كان لذلك موقع عظيم النفع في الدين.(1/106)


فصل في دخول الكعبة المشرفة
يستحب دخول الكعبة المشرفة، وقد سبق ذكر دخوله صلى الله عليه وآله وسلم في استلام الأركان. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: (( من دخل البيت دخل في حسنة، وخرج من سيئة، وخرج مغفورًا له. ))، رواه في الشفاء عن بلال، وأخرجه الطبراني والبيهقي عن ابن عباس. وفي فضل الطواف والصلاة والنظر إليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن لله عز وجل في كل يوم عشرين ومائة رحمة تنزل على هذا البيت، فستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين. ))، رواه في الشفاء. قال في تخريجه للضمدي أخرجه الطبراني والحاكم في الكنى وابن عساكر. وفي الشفاء روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( تفتح أبواب السماء وتستجاب دعوة المسلم عند رؤية الكعبة. ))، قال في التخريج: أخرجه الطبراني مع زيادة ولفظه: تفتح أبواب السماء ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن: عند التقاء الصفوف في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وعند الصلاة، وعند رؤية الكعبة. وأخرج ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال: (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( من طاف بالبيت وصلى ركعتين كان كعتق رقبة )). وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( يحشر الحجر الأسود يوم القيامة وله عينان ولسان، يشهد لمن استلمه بحق. ))، أخرجه البيهقي بلفظ: (( ليبعثن الحجر يوم القيامة...))، الحديث. وقد صح في الجامع عن محمد بن منصور: (( بلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه دخل الكعبة مرة واحدة لا قبلها ولا بعدها، وبسط رداءه في البيت، فمشى عليه إجلالاً للبيت.))، وقد صح أنه صلى الله عليه وآله وسلم دخله في الفتح ولم يدخله في العمرة، واختلف في دخوله في الحج. وقد صح أن حجر اسماعيل عليه السلام من البيت، فهو يكفي لمن تعسر عليه الدخول، والأَولى تركه إن أدى إلى أذية الزحام خصوصًا النساء، وعن عائشة(1/107)


قالت: (( كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي فأدخلني الحجر، فقال لي: صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك استقصروا حين بنوا الكعبة، فأخرجوه من البيت.))، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حديث صحيح.
قلت: وهذا يفيد أنه كله من البيت، ولما يحصل من الزحام قلّ من يحاول الدخول من العلماء، وإنما يدخله منهم من صادف فراغًا وهو نادر. فإن تيسر دخوله فليفعل ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى ركعتين بين العمودين، وقد استدل بذلك على جواز الصلاة بين السواري في غير جماعة، وكان البيت على ستة أعمدة، فجعل عمودًا عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة وراءه وصلى. وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم جلس فحمد الله وأثنى عليه وسأله واستغفره وكبّر وهلّل، ثم قام إلى ما بين يديه من البيت، فوضع صدره عليه وخدّه ويديه، ثم هلّل وكبّر ودعا، ثم فعل ذلك بالأركان كلها، ثم خرج... إلى آخره. وليقل حال الدخول: (( اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا بالسلام. ))، رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجامع الكافي عند دخوله. ويحسن أن يقول: (( اللهم صل على محمد رسولك الأمين وآله الطاهرين. اللهم إنك وعدت من دخل بيتك الأمن، وأنت خير من وفى. اللهم فاجعل أماني أن تكفيني كل ما أهمني من أمر آخرتي ودنياي، واغفر لي ولوالدي ولمن ولدا يا أرحم الراحمين.)).(1/108)


فصل
وبعد تمام السعي إن كنت متمتعًا أو معتمرًا عمرة مفردة، فقد حلّ لك جميع المحظورات إلا النساء، فلا تحل إلا بعد الحلق أو التقصير؛ لأن السعي في العمرة بمنزلة الرمي في الحج، إلا أنه يحل بأول حصاة من الرمي في الحج، ولا يحل إلا بعد تمام السعي في العمرة. والحلق أو التقصير في العمرة بمنزلة طواف الزيارة في الحج في تحليل النساء بعده، وإن كنت مفردًا أو قارنًا بقيت على إحرامك.(1/109)


فصل في النسك الرابع: الوقوف بعرفة
النسك الرابع الوقوف بعرفة، ولا يتم الحج إلا به، ولا يجبره دم بلا خلاف. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( الحج عرفات ))، رواه الإمام زيد بن علي عن آبائه عليهم السلام، وأخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
حدود عرفة:
حدود عرفة من ثوبة إلى نمرة إلى ذي المجاز إلى عرنة، ولا يدخل الحد في المحدود. وفي شرح المنتقى: (( ولها أربعة حدود، حد إلى جادة الطريق المشرف، والثاني إلى حافات الجبل الذي وراءه أرضها، والثالث إلى البساتين التي تلي قرنيها على يسار مستقبل الكعبة، والرابع وادي عرنة بضم العين وبالنون وليست هي ولا نمرة من عرفات ولا من الحرم.))، انتهى. وعرنة ونمرة بين عرفة والحرم على طرف عرفة الغربي، وعرنة أقرب إلى عرفة من نمرة متصلة بها بحيث لو سقط جدار المسجد الغربي سقط فيها، انتهى. قيل: صدر مسجد إبراهيم من عرنة، وآخره من عرفة، انتهى. وفي بعض حواشي الأزهار في ذكر عرنة ما لفظه: (( وهو وادٍ يماني عرفة مستطيل من اليمن إلى الشام، كثير الأراك، وهو من قرن عرفة يميل إلى الغرب.))، انتهى. فمن وقف فيه ولم يقف في عرفة لم يصح حجّه. وروي عن مالك أنه يجزيه ويريق دمًا، ولا يفيد العامي خلاف مالك في هذا للإجماع قبله وبعده، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( عرفة كلها موقف ما خلا بطن عرنة ))، رواه الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام. وفي الجامع الكافي: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه وقف بعرفة فقال: (( هذا الموقف وعرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة، وجمع كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر، ومنى كلها منحر وشعاب مكة كلها منحر )). وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة ))، وأخرجه ابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل عرفة موقف(1/110)

22 / 57
ع
En
A+
A-