فصل في مسنونات الطواف
أول ما يبدأ به:
مسألة: أول ما تبدأ به الطواف، كما فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.(1/71)


الأول: استلام الأركان
كيفية الاستلام: وصفة الاستلام أن تضع يدك اليمنى على الركن، ثم تمسح بها وجهك. فأما الحجر الأسود فتقبله وتسجد عليه كما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هذا إن أمكن بدون مشقة. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم فيه ثلاث كيفيات: الأولى: تقبيله، والثانية: وضع يده عليه ثم تقبيلها، الثالثة: استلامه بالمِحْجَن وتقبيله، وهو - بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم - عصا محنية الرأس. وقد سبق قول أمير المؤمنين: (( يتمسح بالحجر الأسود ويكبّر ويذكر الله ويقول إذا استلم الحجر: اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، واتّباعًا لسنة نبيك.)). ثبت هذا عن أمير المؤمنين عليه السلام. وفي الجامع قال محمد: (( وإذا دخلت المسجد الحرام، فامشِ حتى تدنو من الحجر الأسود، فإذا عاينته فارفع يديك حياله وكبّر، فإن أمكنك أن تقبّله وتستلمه فعلت، وإلا فاستلمه بيدك اليمنى وقبّل يدك، وروي ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي عليهم السلام، وإن لم يمكنك ذلك وقفت حياله، وارفع يديك وكبّر الله وهلّله وقل: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، وكذلك فافعل بالركن اليماني.)). وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( مسحهما يحطّ الخطايا )). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أن مسح الركن اليماني والحجر الأسود يحطّ الخطايا حطًا، أخرجه أحمد والنسائي عن ابن عمر. وعن بعض الصحابة أنه قال: (( يا رسول الله، كيف نقول إذا استلمنا؟ قال: قولوا: بسم الله، والله أكبر، إيمانًا بالله، وتصديقًا بما جاء به محمد.))، رواه الشافعي في الأم. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه استقبل - يعني الحجر - فاستلمه، ثم وضع شفتيه عليه طويلاً يبكي، ثم قال :(( ها هنا تسكب العبرات ))، أخرجه الشافعي عن ابن عمر في الأم. وأخرج أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم قبّل الركن،(1/72)


وسجد عليه ثلاث مرات، أخرج ذلك الطبري. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبّل الركن اليماني، ويضع خده عليه، رواه الدارقطني. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يدع أن يستلم الحجر والركن واليماني في كل طوافه، رواه أحمد وأبو داود. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضى إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود، فكبّر واستلم، ثم قال: (( اللهم وفاء بعهدك، وتصديقًا بكتابك.))، قال جابر رضي الله عنه: (( وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نقول: واتّباعًا لسنة نبيك.))، أخرجه ابن ماجه. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (( يا عمر، إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلّل وكبّر )). وعن ابن عباس رضي الله عنهما: طاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبّر، أخرجه البخاري وبوّب له التكبير عند الركن.
قلت: ولا التفات إلى ما ذكره ابن القيم من أن افتتاح الطواف بالتكبير بدعة. فقد صح أنه سنة، وكيف يكون ذكر الله تعالى بدعة، وهو مشروع على الإطلاق، ولم يرد نهي عنه في حال من الأحوال؟(1/73)


هذا وأخرج الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري قال: قبّل عمر الحجر الأسود وقال: (( إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلك ما قبلتك.)). فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (( بلى إنه يضر وينفع.))، وذكر أن الله تعالى لما أخذ المواثيق على بني آدم كتب في رق وألقمه الحجر. وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( يؤتى بالحجر الأسود يوم القيامة، وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد )) ، وساق الخبر الذي أخرجه الحاكم الطبري بأبسط منه عن الأزرقي، وزاد فيه فقال عمر: (( أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.))، وأخرجه الشوكاني في نيل الأوطار من رواية الحاكم، قال: وفي إسناده أبو هارون العبدي، وهو ضعيف جدًا.
قلت: لأنه محب لآل محمد عليهم السلام جدًا، فهو من الثقات الأثبات عند أئمة العترة عليهم السلام كما أوضحت ذلك في لوامع الأنوار. قال القاضي الشوكاني: ولكنه يشد عضده خبر ابن عباس؛ انتهى كلامه. قلت: هو شديد العضد، قوي الساعد، وتزيده قوة الشواهد وحديث التقبيل، أخرجه الجماعة.
فإن لم يتمكن من التقبيل كفى المسح باليد وتقبيلها أو نحو ذلك، كما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم استلم الركن بمحجن وقبّله في خبر جابر وغيره. قال الشوكاني في نيل الأوطار: (( وقد استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل المحجن جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره.)). ونقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيل قبره، فلم يرَ به بأسًا.(1/74)


قلت: رواه عن أحمد بن حنبل في فتح الباري.وقال الإمام زيد بن علي عليهما السلام في المنسك: (( فإذا دخلت المسجد الحرام، فاستقبل الركن الذي فيه الحجر الأسود، فادعُ الله، وأثنِ عليه بما هو أهله، وصلِّ على النبي وأهل بيته وقل: اللهم تصديقًا بكتابك، وسنة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، ثم استلم الحجر الأسود وقبّله إن استطعت على ألا تؤذِي ولا تُؤذَى، وإن استقبلته استقبالاً أجزاك...)) إلى قوله: (( فإن لم تستطع أن تقبّله، فاستلمه بيدك اليمنى ثم قبّلها، ثم قل: اللهم البيت بيتك، والعبد عبدك، وهذا مقام العائذ بك من النار. وتخيّر لنفسك من الدعاء ما أحببت، ثم تستلم الركن اليماني والحجر الأسود ما استطعت. فافعل ذلك سبع مرات إن قدرت، وإلا فافتتح بالحجر الأسود واختم به.))، انتهى. وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام مثل قول أخيه الإمام الأعظم عليه السلام بلفظه إلى قوله: وسنة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ساق معنى كلامه.
الكلام على استلام جميع الأركان:
مسألة: نص الإمام الهادي إلى الحق وغيره من العترة عليهم السلام على استلام جميع الأركان. وقد قال باستلام جميع الأركان من الصحابة السبطان الحسن والحسين، وجابر بن عبدالله، وأنس وابن الزبير، ومن التابعين أبو الشعثا وعروة، ورواه عنهم النووي في شرح مسلم، وروى ذلك ابن المنذر وغيره عن الحسنين وجابر وسويد بن غفلة، ورواه البخاري عن ابن الزبير. والعجب من العلامة الأمير حيث قال في سبل السلام: (( واتفق الجماهير على أنه لا يمسح الطائف الركنين الآخرين.))، قال القاضي: (( وكان فيه خلاف لبعض الصحابة والتابعين، وانقرض الخلاف، وأجمعوا على أنهما لا يستلمان.))، انتهى.(1/75)

15 / 57
ع
En
A+
A-