قلت: أما السطوح المرتفعة على البيت كما هي عليه الآن ففيه نظر، إذ لا يصدق عليه إلصاق التطوف به، بل هو تطوف عليه، مع أنها قد صارت خارج المسجد. وفي عجائب الملكوت أن المسجد سبعة أجربة، وطوله ثلاثمائة وستون ذراعًا.
السابع: كونه خارج الحجر بجميع بدنه حتى يده، ويكون طوافه من خارج الشذروان، فلو وضع يده على الشذروان أو على جدار الحجر، لم يصح ذلك الشوط لأنه لم يطف بالبيت؛ انتهى من الأثمار باختصار، وسيأتي التفصيل.
الثامن: كونه سبعة أشواط متوالية، ولو طاف وهو زايل العقل - لأن أعمال الحج لا تفتقر إلى تجديد النية عند كل جزء من أجزائها، بل تكفي نية الحج في الابتداء كسائر العبادات. ويلزمه دم لكونه على غير طهارة إن لحق بأهله ولم ُيعِدْه، وعليه الإعادة قبل اللحوق ما لم يوضّه رفيقه أو ييممه إن كان فرضه. ولا يقال: لا ثمرة للطهارة لأن زوال العقل من النواقض؛ لأنه لا ينتقض بالحدث الدايم كالمستحاضة، أو محمول على آدمي أو غيره، لا على طاير - أو طاف وهو لابس أو راكب غصبًا، لأنه لم يعص بنفس ما به أطاع.
التاسع: الموالاة.
مسألة: ويلزم دم لتفريق أي طواف لزم بالإحرام أو شوط منه. وحدّ التفريق ما يعد متراخيًا، مثال تفريق جميعه: أن يقعد بين كل شوطين، أو في وسط كل شوط، أو يستقيم، أو يدخل الحجر ثم يرجع إلى حيث دخل منه ويتم الشوط، فإن فعل ذلك في كل شوط فقد فرق جميعه، وإن فعله في واحد فقد فرق بين ذلك الشوط. فمهما حصل التفريق أوجب الدم، ولو فرق جميع الطواف لزمه دم واحد ما لم يتخلل الإخراج فتتعدد.(1/66)
فرع: ومن التفريق دخول الحجر حال الطواف، وله صور: فإن كان في الأول ورجع من حيث دخل فدم للتفريق، وإن استمر ولم يعتد به - أي رفضه - فلا شيء، وإن اعتد به فصدقة للترك، وإن كان في الوسط وعاد فدم للتفريق، وإن استمر ولم يعتد به فدم للتفريق، فإن اعتد به فدم للتفريق وصدقة للترك، وإن كان في الآخر ورجع فدم، وإن استمر واعتد به فصدقة، فإن لم يعتد به فدم للتفريق؛ أفاده في التذكرة، وهو المقرر للمذهب.
فصل في لزوم الدم
وإنما يلزم الدم بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون عالمًا عامدًا، فلو كان جاهلاً لعدم جوازه أو ناسيًا فلا شيء.
الثاني: أن يكون غير معذور، فلو فرّق لزحمة منعته الاستمرار، أو للشرب، أو صلاة فريضة جماعة أو فرادى لا النفل، ولو في أول الوقت، أو فرق لأجل الدعاء، أو لينفس على نفسه قدر ما يحتاج إليه، أو احتاج إلى الوضوء، وسواء طال الفصل الذي لعذر أم قصر، فإنه يجوز البناء عليه ولا دم.
الثالث: إن لم يستأنف الطواف من أوله، ولا يحتاج إلى نية للاستئناف، ولا يخير بينه وبين الدم قبل اللحوق، بل الواجب عليه هو الاستئناف ما لم يلحق بأهله، وإذا استأنف الطواف استأنف الركعتين.
تنبيه: لزوم الدم في هذا ونحوه هو المذهب وقول الكثير. وقد أنكر السيد الحسن الجلال في ضوء النهار الإيجاب في مثل هذا، وقرره السيد الأمير في المنحة، قال: (( وهذا الكلام الذي ذكره صحيح، ووجه لسقوط الدماء التي ملؤوا بإيجابها الأوراق صبيح، فإنه ليس في إيجاب الدماء غير هذا الأثر الموقوف على ابن عباس، ولا تقوم به حجة... )) إلى آخره.
قلت: قد سبق الكلام على ذلك، وان أشف ما يستدل به ما روي من عدم الخلاف وفيه ما فيه، والأحوط الإخراج من دون جزم بالوجوب إلا فيما ورد به النص، والله سبحانه ولي التوفيق.(1/67)
مسألة: وترك شوط أو بعضه أو شوطين إلى ثلاثة ونصف يوجب صدقة، عن كل شوط نصف صاع. وترك بعض الشوط كترك كله في الصدقة لا في الدم لصحة البناء. وفي ترك أكثر من ثلاثة ونصف يوجب الدم كترك الكل، إلا طواف الزيارة فهو محصر بما ترك منه ولو قل. ولا تجزي الصدقة قبل اللحوق بالأهل، وكذا لا يجزي الدم في التفريق قبل ذلك كما مر.
فائدة: لا فرق في النقص بين العلم والجهل.
تنبيه: الفرق بين الترك والتفريق أن الموالاة نسك فيجب لتفريقه دم، والترك للشوط ونحوه ترك لبعض نسك، فلا يلزم إلا إذا ترك أكثر النسك، هكذا ذكروه.
العاشر: ركعتان فرادى وجوبًا بعد كل طواف لزم بإحرام، وندبًا فيما لم يكن عن إحرام. وعند الناصر وأبي جعفر وأحد قولي الشافعي وحصّله المؤيد بالله أنهما سنة. ويجب الجهر فيهما، ولا وقت لهما ولا مكان، ويستحب أن يصليهما خلف مقام ابراهيم صلى الله عليه وآله. فإن تركهما عمدًا أو سهوًا فحيث ذكر ولو في بيته. وعند مالك والثوري: يلزم دم بتركهما في المقام. ويستحب أن يقرأ فيهما مع الفاتحة الإخلاص والكافرون كما في خبر جابر وغيره.
فائدة: ولا دم على من تركهما على المذهب إذ هما غير نسك، فإن تركهما والطواف لم يلزم إلا دم واحد.
فرع: فلو تركهما حتى فرغ من الحج أجزاه أن يصلي ست ركعات، ولا يلزمه التعيين كما مر في أن نية الحج كافية، فهذه فروض الطواف الواجبة فيه.(1/68)
فصل فيما يستحب من الأعمال والأذكار
متى دخلت مكة المكرمة فادخلها بسكينة ووقار وقل:
اللهم إن هذا الحرم حرمك، والبلد بلدك، والعبد عبدك، جئتك بذنوب كثيرة، وأعمال سيئة، أسألك مسألة المضطر إليك، المشفق من عذابك، أن تستقبلني بعفوك. اللهم إن هذا حرمك وحرم رسولك، فحرّم لحمي ودمي وعظمي على النار. اللهم آمنّي من عذابك يوم تبعث عبادك، ووالدي وما ولدا، وصلى الله وسلم على رسوله محمد الأمين وآله الطاهرين.
ويستحب الغسل كما سبق من فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم مكة. ففي الرواية أنه صلى الله عليه وآله وسلم بات بذي طوى، المعروفة الآن بآبار الزاهر، ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل ونهض إلى مكة، فدخلها من أعلاها من الثنية التي تشرف على الحجون. وكان في العمرة يدخلها من أسفلها، وفي الحج دخلها من أعلاها، وخرج من أسفلها، ثم دخل المسجد الحرام من باب بني عبد مناف المسمى باب بني شيبة، ولم يركع تحية المسجد بل عمد إلى البيت. وسنسوق إن شاء الله تعالى أعماله صلى الله عليه وآله وسلم في الحج كاملة.
نعم ومتى نظرت إلى الكعبة المشرفة فقل: (( الله أكبر (رافعًا يديك، روي ذلك عنه صلى الله عليه وآله وسلم) اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة، وزد من شرّفه وكرّمه ممن حجّه أو اعتمره تشريفًا وتعظيمًا وتكريًما وبرًا. )). وهذا الدعاء مأثور، أخرجه الشافعي في مسنده وغيره عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وروى فيه رفع اليدين.(1/69)
هذا وقل عند الدخول إلى المسجد الحرام: (( بسم الله وبالله والحمد لله، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. اللهم افتح لي أبواب رحمتك. اللهم أنت السلام، ومنك السلام، حيّنا ربنا بالسلام.)). رُوي هذا عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وقل: (( الحمد لله الذي بلّغني بيته الحرام، اللهم إني أشهدك أن هذا بيتك الحرام الذي جعلته مثابة للناس وأمنًا مباركًا فيه وهدى للعالمين. اللهم إني عبدك، والبلد بلدك، والبيت بيتك، جئت أطلب رحمتك، فصلّ وسلم على محمد رسولك الأمين وآله الطاهرين، وأدخلني في رحمتك ووالدي وما ولدا يا أرحم الراحمين.)).
وهذا من مواضع استجابة الدعاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( تفتح أبواب السماء، وتستجاب دعوة المسلم عند رؤية الكعبة )).(1/70)