قلت: وفي رواية النسائي: (( حين أراد أن يحرم.)). وفي الجامع الكافي، قال القاسم عليه السلام في الطيب قبل الإحرام: روي عن عائشة أنها قالت: تطيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند إحرامه حتى رأيت وبيص الطيب في مفرقة بعد ثلاث. وروى داود عن القاسم أنه سئل عن ذلك فقال: ما أكثر ما جاء في تسهيل الطيب عند الإحرام، وإنا لنكرهه لما يجد غيره من المحرمين معه. انتهى.
قلت: يعني وليس كذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الذين معه لم يحرموا إلا بعده.
وفي الجامع عن الحسين بن زيد قال: (( رأيت عمر وحسينًا ابني علي وجعفر بن محمد عليهم السلام إذا أرادوا أن يحرموا اغتسلوا في منازلهم، ثم يتطيبون بأطيب طيبهم، ثم يلبسون ثياب إحرامهم، ثم يخرجون إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون آخر ما يخرجون به.)).
قلت: ويحتمل أنهم اغتسلوا بعد ذلك للإحرام، ولا يخفى أن الترك أحوط، وأن القول أقوى وهو صريح في المنع، وحكاية الفعل محتملة. هذا فيما كان فعله قبل الإحرام، أما بعده فهو مجمع على تحريمه، والله الموفق.
الرابع:(1/46)


أكل صيد البر:
وأقله ما يفطر الصايم، ولو كان مُحَرَّمًا لغير الإحرام كالميتة منه، وما لا يؤكل لحمه كالفهد، ويدخل الجراد والشظاء والنحل على الصحيح. والمعتبر ما كان جزءً منه كالجلد والصوف، أو يؤول إليه كبيضِه، لا اللبن والسمن والعسل والحرير بعد انفصاله فليس بصيد، ومذهب العترة وهو المرويُّ عن علي عليه السلام وابن عباس وابن عمر وغيرهم تحريمه مطلقًا، سواء صاده المحرم أو غيره، صِيْد له أو لم يُصَد له، بإذنه أم بغير إذنه، لقوله تعالى: ? وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا ? والمراد المصيد لا الاصطياد لأنه قد أغنى عنه قوله تعالى: ? لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ?، ولخبر الصعب بن جَثَّامة المتفق عليه، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم رد صيده وقال: (( إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرُم. ))، فعلّله بالإحرام. وفي الجامع: وإنما كان الصعب صاده لنفسه، ولأن عليًا عليه السلام امتنع من الأكل منه بعد أن قال عثمان: (( ما كرهت من هذا، فوالله ما أشرنا، ولا أمرنا، ولا صدنا. فقال عليه السلام: ? أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرمًا ?.))، أخرجه المؤيد بالله في شرح التجريد بسند صحيح إلى عبدالله بن الحارث عن أبيه، وأخرج نحوه أحمد وأبو يعلى والبزار.
وقد احتج من أجازه إذا لم يصده المُحرم ولم يُصَد له بما لا يقاوم هذا، وعلى كل حال فتركه أحوط.
فصل في تفسير الفدية
وهذه الأشياء من قوله: (( الأول لبس الرجل...)) إلخ، فيها الفدية. وهي:
إما صيام ثلاثة أيام متوالية أو متفرقة.
أو إطعام ستة مساكين، كل واحد نصف صاع من أي جنس من الحبوب. والمراد بالإطعام: التمليك أينما ورد في الحج، وتجزي القيمة، وفي واحد ما لم تبلغ النصاب على المذهب.
وإما شاة بسن الأضحية، أو عُشر بدنة، أو سُبع بقرة.(1/47)


فهذه هي الفدية أينما ذكرت، وهذا هو تفسير قوله تعالى: ? من صيام أو صدقة أو نسك ?، والتخيير للمعذور وغيره. وروى الإمام يحيى عن الهادي إلى الحق، وهو قول الناصر للحق وأبي حنيفة وأصحابه: إنه خاص بالمعذور، وأما المتمرد فالدم. قلت: والنص وارد في المعذور، لكن غيره يحتاج إلى دليل.
فائدة: الفدية: اسم ما لزم بمحظور غير الوطء وقتل الصيد. والكفارة: ما لزم بالوطء ومقدماته، وبترك نسك، وبفوات ما أحرم له. والجزاء: ما لزم بقتل الصيد. والصدقة: لما دونهما. والقيمة: ما وجب بقتل صيد الحرم وأكل لحمه، وأخذ شيء من شجره، وتلزم الحلال والمحرم والعامد وغيره، وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
الخامس:
الخضاب بالحناء لا بغيره لأنه طيب وزينة. فتلزم الفدية في كل أصابع اليدين والرجلين إن كان في مجلس واحد، لا في مجالس فأربع فدى. وكذا في خضب خمس منها، ولو متفرقة في اليدين والرجلين.
فائدة: لا شيء في خضاب اللحية والرأْس وسائر البدن؛ أفاده الإمام عز الدين بن الحسن عليهما السلام وهو المذهب، وكذا لا شيء في الإصبع الزايدة.
السادس:
تقصير الأظفار، والمعتبر فيه المعتاد. وحكمه حكم الخضاب، ففي الجميع فدية، وكذا في خمس منها، وكذا تلزم الفدية في خضب أو قص نصف عشرة أو ربع عشرين على المذهب، وما أضيف منه بطل باقيه.
السابع:
مما تجب فيه الفدية إزالة سن أو شعر أو بشر منه، أو من محرم غيره ولو بعد فساد إحرامه، يتبين أثره في التخاطب مع القرب المعتاد بغير عناية، وفيما لا يرى إلا بتأمل صدقة نصف صاع، وفيما لا أثر له ما تيسر ولو تمرة سواء كان لعذر أم لا.
فرع: قلع الأسنان: فلو قلع جميع الأسنان في مجلس واحد ولم يتخلل الإخراج لم تلزم إلا فدية واحدة.
فائدة: لو سقط فأزال شعرًا أو بشرًا أو نحوه فلا شيء إن لم يتعمد وسار السير المعتاد. وبهذا يستفاد أن جميع بدنه في حكم الأمانة كالوديعة.(1/48)


فرع: وتدخل فدية شعر الجلدة إن قطعت في فديتها كمن جرح ثم قتل متصلاً.
مسألة: ويجب فيما دون ذلك من السن والشعر والبشر وعن خضب كل إصبع أو تقصيرها صدقة، وهي نصف صاع، وفيما دون الإصبع حصته. ويعتبر في الإصبع بالمساحة، ففي نصفها نصف صدقة وهكذا. وفي الشعرة الواحدة ملء الكف أو تمرة أو رغيف، ويجزي الدم ولو كانت قيمته أقل من الصدقة، هذا كله على المقرر للمذهب.
فائدة: لو جنى المحرم جنايات توجب القصاص لم تجب الفدية لئلا يجتمع غرمان.
مسألة: ولا تتضاعف الفدية بتضعيف الجنس الواحد من هذه المحظورات في المجلس. فالمخيط جنس واحد، وهو أربعة أنواع: للرأس كالقلنسوة والعمامة والبرنس، ولليدين كالقفازين، وللرجلين كالخف والجورب، وللبدن كالقميص والجبة والقبا والدرع والفرو، فإن لبس ذلك كله في مجلس ففيه فدية واحدة، ولو طال المجلس أو استمر في لبسه في مجالس ما لم يتخلل إخراج الفدية جميعها، أو الصدقة، أو نزع اللباس. فمتى فعل جنسًا واحدًا وكرره في مجلس واحد لم تلزمه إلا فدية واحدة، فإن تخلل نزع اللباس مثلاً نحو أن يلبس المخيط ثم ينزعه ثم يلبسه لزمت فديتان، ونحو أن يتضمخ بالطيب ثم يغسله حتى يزول ريحه بالكلية ثم يتضمخ لزمت فديتان. وكذلك الخضب بأن يزول جِرْمه لا لونه وغيره. وكذا لو تخلل إخراج الفدية تكررت، خلاف أبي حنيفة وعنده لا تجب الفدية إلا بلبس يوم كامل أو ليلة، فإن تضاعف اللباس من نوع واحد كمغفر وعمامة فوق قلنسوة، أو قبا فوق جبة فوق قميص في مجلس واحد ففدية واحدة، وفي مجالس إِن غطَّى الثاني غير ما غطَّى الأول تعددت وإلا فلا.
تنبيه: تغطيةُ الرأسِ ولبسُ المخيط جنسٌ واحد. والتماس الطيب على أي صفة جنسٌ. وخضب الأصابع جنسٌ، وتقصيرها جنس. وإزالة الشعر والبشر كلاهما جنس إن أزيلا بفعل واحد، وجنسان إن كانا بفعلين وتكرر الفدية. وأكل الصيد أَيِّ صيد كان جنس واحد، والجسم كالعضو الواحد.(1/49)


مسألة: ومتى تخلل نزع اللباس ولا عذر، أو معه ولم ينوِ المداومة، تكررت إجماعًا. والمذهب أنها تكرر ولو نواها، وعند الإمام المنصور بالله وابن أبي الفوارس لا تتكرر معهما. قلت: وكلام الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام يفيد أن المعذور لا تتكرر عليه الفدية، وهو الراجح لما في ذلك من الحرج والمشقة ? يريد الله بكم اليسر ?، ولعدم الدليل على التكرار.
فرع: ولا شيء في الحجامة وعصر الدماميل وإزالة الشوك ولو خرج دم، إلا أن يزيل بذلك شعرًا أو بشرًا له أثر. فأما لو قلع الضرس المؤذي جاز ووجبت الفدية، خلاف أبي حنيفة، وتكون الفدية على المحرم لا على الفاعل، إلا أن يقلعه بغير اختياره. قلت: وروى الإمام زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام قال: (( لا ينزع المحرم ضرسه ولا ظفره إلا أن يؤذياه.)). وبهذا السند قال: (( يحتجم المحرم إن شاء.)). وقد صح أنه صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم برواية أئمة العترة وعلماء الأمة. والظاهر من هذا عدم لزوم الفدية إن لم يزل إلا ما لا بد منه، إلا أن في الأمالي قال محمد: (( سألت عبد الله بن موسى عن المحرم يحتجم فقال: يحتجم ويكفر.)). وذكر غير عبد الله من أهل البيت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وفدى، فالأَولى إخراجها.
والأصلُ في لزوم الفدية في هذا الباب كله النص في شعر الرأس وهو قوله تعالى:? فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ?، وقيس عليه غيره. وبهذا تم الكلام على السبعة الأشياء من النوع الثالث.
النوع الرابع من محظورات الإحرام قسمان:(1/50)

10 / 57
ع
En
A+
A-