ثم غلبت القرامطة على (صنعاء)، ورئيسهم رجل نَجَّار من أهل الكوفة يعرف بعلي بن الفضل وادعى النبوة، وسمع من عسكره التأذين بـ (أشهد أن علي بن الفضل رسول اللّه)!! واجتمع إلى هذا الرجل عدد كثير من أهل اليمن وغيرهم، وهَمَّ بأن يقصد الكعبة ويخربها. فبلغ ذلك إلى يحيى بن الحسين عليه السلام، فجمع أصحابه وقال لهم: قد لزمنا الفرض في قتال هذا الرجل، فَجَبُن أصحابه عن قتالهم واعتذروا بقلة عددهم وكثرة عدد أولئك، وكان أصحابه في ذلك الوقت المقاتلة منهم ألف رجل، فقال لهم الهادي إلى الحق عليه السلام: تفزعون وأنتم ألفا رجل، فقالوا: إنما نحن ألف، فقال: أنتم ألف، وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم. فقال له أبو العشائر - من أصحابه وكان يقاتل راجلا ما في الرجالة مثله - : مافي الرجالة أشجع مني، ولا في الفرسان أشجع منك. فانْتَخِب من الجميع ثلا ثمائة رجل وسلِّحهم بأسلحة الباقين حتى نبيتهم فإنا لا نفي بهم إلا هكذا. فاستصوب عليه السلام رأيه فأوقعوا بهم ليلا وهم ينادون بشعاره عليه السلام ?وَلَيَنْصُرَنَّ اللّه مَنْ يَنْصُرَهُ إِنَّ اللّه لَقَوْيُّ عَزِيْزٌ? [الحج: 40] ، فمنحوه أكتافهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغنم منهم شيئا كثيرا. حدثني بذلك أبو العباس الحسني رحمه اللّه عن أبي عبد اللّه اليمني - فارس يحيى بن الحسين عليه السلام - .(1/32)
وحدثني عنه أنَّه قال: شهدت معه عليه السلام ثلاثا وسبعين وقعة مع القرامطة وكان يحارب بنفسه. قال: وإذا قاتل قاتل على فرس له يقال له: أبو الحماحم، ما كان يطيقه غيره من الدواب، لا لسمن كان به، بل كان وسطاً من الرجال لكنه كان شديداً قوياً، وكان يعرف بالشديد.
قال: ورأيته عليه السلام شَالَ برمحه رجلا كان طعنه به عن فرسه ورفعه فانثنى قضيب الرمح وانكسر.
وحدثني أبو العباس الحسني رحمه اللّه قال: سمعت غير واحد من أصحابه يحدث عنه أنَّه قبض على يد رجل بارزه وبيده السيف فَهَشَّم أصابعه على المقبض.
وقال أحمد بن يحيى : إنَّه سمع الهادي عليه السلام يقول: قد عَفُنَ العلم في صدري، كما يعفن الخبز في الجرة إذا طرح بعضه على بعض في جرة ثم لم يقلب.
وكان عليه السلام إبتدأ بتأليف كتاب (الأحكام ) بالمدينة، ولما انتهى إلى باب البيوع اتفق خروجه إلى اليمن، واشتغاله بالحروب فكان يملي بعد البيوع على كاتب له كلما تفرغ من الحرب، وكان قد هم بأن يفرع ويكثر من التفريع، فحالت المنية بينه وبين ذلك عليه السلام.
وقد كان عليه السلام خرج من اليمن وعاود المدينة في بعض الأوقات مغاضباً لأهلها، وكان السبب فيه: أن بعض الأمراء هناك من أولاد ملوك اليمن من عشائر أبي العتاهية شرب الخمر فأمر بإحضاره ليقيم عليه الحد، فامتنع عليه، فقال عليه السلام: لا أكون كالفتيلة تضيء غيرها وتحرق نفسها. فتبعه جماعة منهم وأظهروا التوبة والإنابة وتشفعوا إلى أبيه في مسألة العودة فعاد.(1/33)
وسيرته عليه السلام أكثر من أن يحتمل هذا الكتاب ذكرها. وقد صنف علي بن محمد بن عبيد اللّه العلوي العباسي سيرته وجمع في كتابه أكثرها، إلاّ أنا أوردنا هاهنا أشياء منها لم يوردها في ذلك الكتاب.
وتوفي: عليه السلام: في آخر سنة ثمان وتسعين ومائتين عشية الأحد لعشر بقين من ذي الحجة ، وكان ظهوره سنة ثماني ن، فكانت مدة ظهوره وخلافته ثمان عشرة سنة إلا أياما، ومضى عن ثلاث وخمسين سنة، وقد كان اعتل علة شديدة إلا أنَّه مضى وهو جالس لم تتغير جلسته.
ودفن عليه السلام في جانب من المسجد الجامع بصعدة حرسها اللّه.(1/34)
الإمام المرتضى محمد بن يحيى رضي اللّه عنه
هو: أبو القاسم محمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
أمه: فاطمة بنت الحسن بن القاسم بن إبراهيم، ولد في سنة ثمان وسبعين ومائتين ، وكان فقيها عالما بالأصول في التوحيد والعدل، وله كلام كثير في الفقه، نحو: (كتاب الإيضاح )، و(كتاب النوازل )، و(جواب مسائل المعقلي )، و(جواب مسائل مهدي ) وغير ذلك من الكتب.
ونشأ على طريقة سلفه، في الزهد والورع.
لما توفي الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام، اجتمع النَّاس إليه باكين وَجِمِيْنَ مذعورين لما دهمهم من الخطب العظيم بوفاته عليه السلام، فخطب رضي اللّه عنه خطبة حسنة وصف فيها الهادي عليه السلام وسيرته وبكى وبكى النَّاس ثم أنشد:
يسَهِّلُ ما ألقى من الوجد أنني .... مجاوره في داره اليوم أو غدا
وانتصب للأمر ولم يتحقق به كل التحقق، إلا أنَّه كاتب العمال وأصحاب الأطراف بأن يكونوا على جملتهم، وكان يخاطَب بالمرتضى لدين اللّه.(1/35)
وظهر في الناحية رجل من القرامطة يعرف: بعلي بن الفضل القرمطي، حاربه وأوقع به، ثم لزم داره لأنه شاهد من أحوال النَّاس وفساد طرائقهم وتغيرهم بموت الهادي عليه السلام عن طريقة الصلاح والسداد، ومجاهرة كثير منهم بالمناكير وإظهار الفساد، ما لم يثق معه من نفسه بالصبر عليهم وعلى تقويمهم، والتمكن من القيام بحق اللّه على شروطه، وأنس من نفسه بما يجري مجرى العجز عن ذلك، وكان أخوه أحمد رضي اللّه عنه غائباً، فلما ورد أشار عليه بالقيام بالأمر، فكانت مدة انتصابه للأمر نحو ستة أشهر.
وتوفي رضي اللّه عنه بصعدة حرسها اللّه سنة عشر وثلاثمائة، وله اثنتان وثلاثون سنة ، ودفن إلى جنب أبيه عليه السلام.(1/36)