ومن أحب أن يعلم براعته في الفقه ودقة نظره في طرق الاجتهاد، وحسن غوصه في انتزاع الفروع، وترتيب الأخبار، ومعرفته باختلاف العلماء، فلينظر في أجوبته عن المسائل التي سُئل عنها، نحو: (مسائل جعفر بن محمد النيروسي ، وعبد اللّه بن الحسن الكَلاَّري) التي رواها الناصر للحق الحسن بن علي رضي اللّه عنه، وكان سمعها منهما، وفي (كتاب الطهارة ) وفي (كتاب صلاة اليوم الليلة ) وفي (مسائل علي بن جهشيار )، وهو جامع (الأجزاء المجموعة في تفسير قوارع القرآن ) عنه عليه السلام، وفي (كتاب الفرائض والسنن ) الذي يرويه إبنه محمد عنه، وليتأمل عقودَ المسائل التي عقدها فيه، وفي (كتاب المناسك ).
وله من الأصحاب الذين أخذوا العلم عنه الفضلاء النجباء، كأولاده: محمد ، والحسن ، والحسين ، وسليمان ، وكمحمد بن منصور المرادي ، والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عم يحيى بن عمر الخارج بالكوفة، ويحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد اللّه[العقيقي]صاحب (كتاب الأنساب ) وله إليه مسائل، ومنهم: عبد اللّه بن يحيى القومسي العلوي الذي أكثر الناصر للحق الحسن بن علي رضي اللّه عنه الرواية عنه، ومنهم: محمد بن موسى الحواري العابد قد روى عنه فقها كثيرا، وعلى بن جهشيار ، وأبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن الحسن بن سلاَّم الكوفي صاحب فقه كثير وراية غزيرة.
وأما زهده عليه السلام فمما اتفق عليه الموافق والمخالف، ومن أحب أن يعرف طريقته فيه، فلينظر في كتابه في (سياسة النفس )، وكان الناصر رضي اللّه عنه إذا ذكره يقول: زاهد خَشِن(1/27)


استشهد أخوه محمد بن إبراهيم وهو بمصر، فلما عَرَفَ ذلك دعا إلى نفسه وبَثَّ الدعاة وهو على حال الاستتار، فأجابه عَالَم من النَّاس من بلدان مختلفة، وجاءته بيعة أهل مكة، والمدينة، والكوفة، وأهل الري، وقزوين، وطبرستان، والديلم، وكاتبه أهل العدل من البصرة، والأهواز، وحثوه على الظهور وإظهار الدعوة، فأقام عليه السلام بمصر نحو عشر سنين.
واشتد الطلب له هناك من عبد اللّه بن طاهر، فلم يمكنه المقام، فعاد إلى بلاد الحجاز وتهامة، وخرج جماعة من دعاته من بني عمه وغيرهم إلى بلخ، والطالقان، والجوزجان، ومَرْوِرُوذ فبايعه كثير من أهلها، وسألوه أن ينفذ إليهم بولده ليظهروا الدعوة.
فانتشر خبره قبل التمكن من ذلك، فتوجهت الجيوش في طلبه نحو اليمن، فاستنام إلى حيّ من البدو واستخفى فيه.
وأراد الخروج بالمدينة في وقت من الأوقات، فأشار عليه أصحابه بأن لا يفعل ذلك، وقالوا: المدينة والحجاز تسرع إليهما العساكر ولا يتمكن فيها من السير.
ولم يزل على هذه الطريقة مثابراً على الدعوة صابراً على التغرب والتردد في النواحي والبلدان، متحملا للشدة، مجتهداً في إظهار دين اللّه.
وحكى الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام عن أبيه أن المأمون كلف بعض العلوية أن يتوسط بينه وبين القاسم عليه السلام، ويصل ما بينهما على أن يبذل له مالاً عظيماً، فخاطبه في أن يبدأه بكتاب أو يجيب عن كتابه، فقال عليه السلام: لا يراني اللّه تعالى أفعل ذلك أبدا!!(1/28)


ولما اجتمع أمره وقَرُبَ خروجه بعد وفاة المأمون وتولي محمد بن هارون الملقب بالمعتصم ، تشدد محمد هذا في طلبه وأنفذ الملقب: ببغا الكبير وأشناش في عساكر كثيرة كثيفة في تتبع أثره، وأحوج إلى الانفراد عن أصحابه وانتقض أمر ظهوره.
وكان عليه السلام إنتقل إلى الرَّس في آخر أيامه، وهي: أرض إشتراها عليه السلام وراء جبل أسود بالقرب من ذي الحليفة وبنى هناك لنفسه ولولده، وتوفي بها - وقد حصل له ثواب المجاهدين من الأئمة السابقين - سنة ست وأربعين ومائتي ن، وله سبع وسبعون سنة، ودفن فيها ومشهده معروف يزوره من يريد زيارته فيخرج من المدينة إليه.(1/29)


الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (ع)
هو: أبو الحسين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
ولد بالمدينة سنة خمس وأربعين[ومائتين] ، وكان بين مولده وبين موت جده القاسم عليه السلام سنة واحدة، وحمُل حين ولد إليه، فوضعه في حجره المبارك، وعَوَّذه وبَرَّك عليه ودعا له، ثم قال لابنه: بم سميته؟ قال: يحيى. وقد كان للحسين أخ لأبيه وأمه يسمى: يحيى، توفي قبل ذلك، فبكى القاسم عليه السلام حين ذكره، وقال: هو واللّه يحيى صاحب اليمن. وإنما قال ذلك لأخبار رويت بذكره وظهوره باليمن، وقد ذكرها العباسي المصنف لسيرته عليه السلام.
كان عليه السلام موصوفا من أيام صباه بفضل القوة والشدة والبأس والشجاعة، والاشتغال بالعلم والتَّوَفُّر عليه.
فأما الزهد والورع فمما لا يحتاج إلى وصفه به، لظهور الحال فيه عند الخاص والعام، والموافق والمخالف، ولأن الزهد أمر شامل لبيت القاسم بن إبراهيم عليه السلام عام في أولاده وأسباطه إلى يومنا هذا، لاسيما من لم يتَغَرَّب منهم ولم يختلط بأمرآء هذه البلدان.
فأما تقدمه في العلم، فاشتهاره يغني عن تقصِّيه، ومن أحب أن يعرف تفصيله فلينظر في كتبه وأجوبته عن المسائل التي سئل عنها، ووردت عليه من البلدان، نحو (كتاب الأحكام )، و(المنتخب )، وكتاب (الفنون )، وكتاب (المسائل )، و(مسائل محمد بن سعيد )، و(كتاب التوحيد )، و(كتاب القياس ).(1/30)


وحدثني أبو العباس الحسني رحمه اللّه عن الفضل بن العباس أنَّه سمع محمد بن يحيى المرتضى رضي اللّه عنه أو غيره يقول: إن يحيى بن الحسين عليه السلام بلغ من العلم مبلغ يُخْتَارُ عنده ويُصَنِّف وله سبع عشرة سنه.
وكان سبب ظهوره أن أبا العتاهية الهمداني كان من ملوك اليمن؛ فراسله عليه السلام وهو بالمدينة بأن يحضر اليمن ليبايعه ويتسلم الأمر منه.
فخرج عليه السلام إلى هناك، فبايعه أبو العتاهية وعشائره وجماعة أهل تلك الناحية، وقام بين يديه مختلعاً متجرداً تقرباً إلى اللّه تعالى وإنابة إليه، وذلك سنة ثمانين ومائتين ، أيام الملقب بالمعتضد ، وله حين ظهر خمس وثلاثون سنة.
واستقام له الأمر، وخوطب بأمير المؤمنين، ونُعِتَ بالهادي إلى الحق وحصل بـ(صعدة) حرسها اللّه وكانت بين (خولان)فتنة وخلاف ومحاربات، فأصلح بينهم، ثم دبَّر أمر البلاد وأنفذ العمال إلى المخاليف.
ثم فتح (نجران) وأقام بها مدة وساس الأمور بها وبث العدل فيها، ثم عاد إلى (صعدة) حرسها اللّه.(1/31)

6 / 168
ع
En
A+
A-