اختيارات قليلة لكمال الدين بن الهمام من المذهب الحنفي، كاختيار رأي مالك في ملكية العين الموقوفة.
أما المذهب الزيدي فإن الاختيار فيه كان كثيراً، وكان واسع الرحاب، وقد كثر الاختيار حتى في القرون الأخيرة، وكان لذلك فضل في نمائه وتلاقيه مع فقه الأئمة الآخرين )) .
وفي بلاد الجيل والديلم حظي فقه الإمام القاسم بن إبراهيم وحفيده الهادي يحيى بن الحسين وولديه محمد بن يحيى وأحمد بن يحيى بعناية خاصة من قِبَل أئمة الزيدية في الجيل والديلم، حتى روي عن الإمام المؤيد بالله - وهو أحد فرسان الفقه ومجتهدي الزيدية - أنه قال: كنا نهاب نصوص يحيى كما نهاب القرآن. يعني في التأمل فيها والاستخراج منها.
وكان من مظاهر ذلك الاهتمام مايلي:
قام السيد الإمام أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني المتوفى (353 هـ) بشرح كتاب (الأحكام) للإمام الهادي شرحاً موسعاً، قدر حجمه بحمل جمل.
وقام بجمع كتب القاسم والهادي وولديه وفرزها بطريقة خاصة في كتاب سماه (كتاب النصوص). ثم استخرج من تلك النصوص بعض التخريجات والمفاهيم، وجمعها في كتاب سماه (كتاب التخريجات)، وبذلك أثرى الفقه الزيدي شكلاً ومضموناً.
قام تلميذه العلامة المتقن علي بن بلال بشرح لطيف لكتاب الأحكام، اقتصر في معظمه على إيراد الأدلة على سائر المسائل، وقد اطلعت منه على جزء واحد وفيه ما يدل على غزارة علم وسعة أفق، إعتمد فيه كثيرا على الرواية من طريق أبي العباس الحسني، مما يؤكد القول بأنه منتزع من شرح أبي العباس على (الأحكام) .(1/12)
قام السيد الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني المتوفى سنة (411 هـ) بتجريد فقه القاسم والهادي وجمعه في كتاب سماه: (التجريد)، ثم أخذ في شرحه والاستدلال على مسائله في كتاب سماه: (شرح التجريد)، وهذا الكتاب يعتبر من أهم كتب الزيدية وأوسعها، ونحن نعمل هذه الأيام على تحقيقه وتقديمه للطبع نسأل اللّه المعونة على ذلك.
قام الإمام الناطق بالحق أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني المتوفى (424 هـ) بجمع فقه القاسم والهادي وولديه محمد وأحمد في هذا الكتاب الذي سماه: (التحرير) وهو هذا الذي بين يديك، وضم إليه ما ذكره أبو العباس عنهم من النصوص وما استخرجه من فقههم، إضافة إلى بعض تخريجاته هو.
وأهل هذه الطبقة من الفقهاء يلقبون عند الزيدية : بالمخرجين، لأنهم خرجوا على نصوص الأئمة السابقين مسائل أخرى. وظل الفقه الزيدي يتنقل في أطوار أخرى عبر الزمن لايمكننا الإحاطة بها في هذه المقدمة.
* * * * *(1/13)
ترجمة المؤلف
عُرِف أهل الجيل والديلم وطبرستان بولائهم الشديد لأهل البيت عليهم السلام، رغم أن معظم مَنْ دخل تلك البلاد منهم دخلها ملتجئاً هارباً من السلطة الغاشمة، وكان أول من دخلها الإمام يحيى بن عبد اللّه أيام هارون الرشيد، ثم تتابعت هجرتهم إلى هناك، ولبثوا فترة زمنية طويلة تمكنوا فيها من دعوة أهل تلك الديار إلى الإسلام؛ فاستجاب لهم خلائق كثيرون وبنوا المساجد، ومارسوا العبادة على أحسن حال، ثم توجهوا للإصلاح الشامل وإشاعة العدل والمعروف، واستطاعوا أن يقضوا على النظام الإقطاعي الجائر الذي كانت تستند عليه رؤساء العشائر، واستبدلوه بنظام التعاون بين الطبقات المختلفة.
وكان ممن هاجر إلى تلك البلاد السيد المحدث الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وأقام فترة طويلة تزوج فيها وأنجب إمامين جليلين، أحدها الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين المولود (سنة 333 هـ)، والآخر الإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين المعروف بأبي طالب المولود سنة (340 هـ).(1/14)
وفي تلك المروج الخضراء والهواء الطلق، وبين تلك الجبال الشاهقة بعيداً عن ضجيج المدنية الخانق.. هنالك في أرض الجيل والديلم نشأ الإمام أبو طالب، في أسرة علمية فاضلة، نشأ والفضائل تكتنفه من كل جانب، وعوامل التكامل وبناء الشخصية الرسالية متوفرة له؛ فوالده من أئمة العلم وفرسان الرواية، وأمه شريفة فاضلة من بنات الشريف علي بن عبد اللّه الحسني العقيقي، كان لها حظ وافر من الصلاح والاستقامة، وشقيقه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين، أحد قلاع العلم رواية ودراية، هذا إضافة إلى جهابذة من العلماء الذين كان يتقلب في حلقاتهم ويتلقى عنهم العلوم والمعارف، كالسيد الإمام أبي العباس الحسني الزيدي، والشيخ أبي عبد اللّه البصري المعتزلي، والمحدث أحمد بن عدي الحافظ السني، والشيخ محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد الإمامي وغيرهم من بحور العلم وعلماء الإسلام على اختلاف نزعاتهم ومذاهبهم.
قال الشهيد حميد: (( كان عليه السلام قد نشأ على طريقة يحكي في شرفها جوهره ويحاكي بفضلها عنصره، وكان قد قرأ على السيد أبي العباس الحسني عليه السلام فقه العترة عليهم السلام حتى لحج في غماره، ووصل قعر بحاره، وقرأ في الكلام على الشيخ أبي عبد اللّه البصري فاحتوى على فرائده وأحاط معرفة بجليه وغرائبه، وكذلك قرأ عليه في أصول الفقه أيضاً ولقي غيره من الشيوخ، وأخذ عنهم حتى أضحى في فنون العلم بحراً يتغطمط تياره، ويتلاطم زخاره )).(1/15)
فما أن بلغ سن الرشد ومرحلة الشباب حتى زاحم مشائخ العلم في ميدان المعارف، ونافس أرباب الحكمة والأدب، وقارع بالحجة فقهاء الأمصار، ورحل في طلب العلوم إلى بغداد، ثم رجع وليس له نظير ودَرَّس بجرجان، وانتشر صيته كانتشار ضوء النهار، فألف وشعر، وأفتى وناظر، وكان كما قال المنصور بالله عبد اللّه بن حمزة: ((لم يبق في فنون العلم فن إلا طار في أرجائه، وسبح في أثنائه)).
فلم يمت حين مات وقد خلف وراءه تراثاً عظيماً في الفقه والأصول والأدب والتاريخ، فمازالت أصداء آرائه وتخريجاته وحججه تتردد بين جدران المساجد وفي حلقات العلم، وتُرسم في صفحات الكتب، ومازال العلماء فقهاء ومحدثين ومؤرخين ينهلون من معينه ويكترعون من فيض علومه، فقد خَلَّف لنا كنوزاً وذخائر من المؤلفات التي دون فيها أنظاره وجفف فيها أفكاره، وامتاز كغيره من أئمة الزيدية بالزعامة السياسية والدينية، فكان المنظور إليه بعد أخيه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين في العلم والفضل، وكانت آراء العامة والخاصة لاتختلف في أنَّه أجدر مَنْ في وقته بالزعامة، فلذا هرع النَّاس إليه بعد موت أخيه الإمام المؤيد بالله سنة (411 هـ) يحثونه على الدعوة ونَصْبِ نفسه إماماً للمسلمين، فأجابه العلماء والفضلاء في طول البلاد وعرضها، وبذلك الحدث عمت الفرحة أوساط الجماهير، وعبر كل عن مشاعره بما يحلو له، وكان أبو الفرج بن هندو - وهو من مشاهير الفلاسفة والأدباء - ممن غمرتهم الفرحة والسرور فعبر عن ذلك بأبيات قال فيها:(1/16)