وعلى امتداد القرن الثاني الهجري كان ما يروى عن الإمام زيد بن علي من فقه هو عمدة جماهير الزيدية في كل مكان، رغم عدم إرتياح السلطة الحاكمة في تلك العصور لذلك، والتي بدورها ضيقت الخناق على أئمة الزيدية وضربت الحصار حول كل ما له علاقة بهم لأهداف سياسية.
وفي أوائل القرن الثالث الهجري استطاع أئمة الزيدية أن يكَوِّنوا مجتمعات صغيرة ذات طابع زيدي إما سراً كما فعل الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد، ومحمد بن منصور المرادي في الكوفة، وإما بعيداً عن متناول أيدي السلطة كما فعل الإمام القاسم بن إبراهيم في (الرس)، والحسن بن زيد المتوفى (270 هـ تقريبا) في (طبرستان).
وبذلك تمكن الأئمة من تدوين شطر من فتاواهم واجتهاداتهم، وشرحوا بعض الأصول التي قامت عليها، واشتهر في هذه الفترة جماعة من فقهاء الزيدية، منهم:
الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي المتوفي سنة (246 هـ)، وهو أحد أعلام الأئمة المجتهدين، له مذهب فقهي مشهور في أوساط الزيدية، وألف كتباً كثيرة في الفقه، منها: كتاب (الفرائض والسنن). كتاب (المناسك). كتاب (صلاة اليوم والليلة). كتاب (الطهارة). كتاب (مسائل ابن جهشيار). كتاب (مسائل النيروسي). كتاب (مسائل الكلاري). وغيرها.
الإمام أحمد بن عيسى بن زيد المتوفى سنة (247 هـ)، وهو المعروف بفقيه آل محمد، له فقه كثير ورواية واسعة، تضمن كتاب (العلوم) الذي جمعه محمد بن منصور المرادي كثيراً من فقهه وروايته، حتى غلب عليه اسم: (أمالي أحمد بن عيسى).(1/7)


الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد المتوفى (260 هـ)، وكان في الشهرة بالكوفة في الزيدية كأبي حنيفة عند فقهائها، قال السيد صارم الدين الوزير: كان عامة الزيدية في الكوفة على مذهبه.
الإمام عبدالله بن موسى بن عبد اللّه المتوفى سنة (247 هـ)، وكان من فضلاء أهل البيت وعلمائهم.
الإمام محمد بن منصور المرادي، أبو جعفر الحافظ، أحد الفقهاء المعمرين، قيل إنه تعمر مائة وخمسين سنة وتوفي بعد سنة مائتين وتسعين، جمع فقهه وما روي عن أئمة الزيدية قبله من فقه في قرابة ثلاثين كتاباً، اختصرها الحافظ العلوي في كتابه (الجامع الكافي)، وقال في مقدمته: (( فما كان من أقوال أحمد، والقاسم، ومحمد مطلقاً - لم أذكر راويه - فهو مما ذكره محمد في مصنفاته، وماكان من سواها فقد ذكرت في المسألة من رواه)) . ثم أخذ يذكر طرقه في رواية فقه الأئمة السابق ذكرهم.
ومما تقدم يلوح لنا أن حركة الفقه وأصوله عند الزيدية في ذلك القرن دخلت طوراً آخر وفترة جديدة، يمكن أن نعتبرها بداية التوجه إلى تدوين الفقه ودراسة أصوله عند الزيدية.
وفي أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع دخل الفقه الزيدي مرحلة أخرى حيث استقرت أوضاع الزيدية نِسبياً بقيام دولة لهم في اليمن بقيادة الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين المتوفى سنة (298هـ)، وهو من كبار مجتهدي الزيدية، وأخرى في الجيل والديلم بقيادة الإمام الناصر الحسن بن علي الأطروش المتوفى سنة (304 هـ)، وهو كذلك إمام مجتهد.(1/8)


ومما ألفه الهادي في الفقه: كتاب (الأحكام) وهو أشهر كتبه. وكتاب (المنتخب) وهو عبارة عن مسائل سأله عنها العلامة الكبير محمد بن سليمان الكوفي المتوفى بعد (301هـ) . وكذلك كتاب (الفنون)، وجميعها قد طبع. وله مسائل أخرى في الفقه متفرقة في ثنايا كتبه الأخرى.
وأما الإمام الناصر فلم أطلع من كتبه في الفقه إلا على كتاب (الإحتساب) وهو كتاب صغير في فقه إدارة شئون المجتمع.وقد ذكر له ابن الديم في (الفهرست 244) مجموعة من كتب الفقه وقال إنه رآها. ثم قال: وزعم بعض الزيدية أن له نحوا من مائة كتاب.
ونبغ من بعد الهادي ولداه: محمد بن يحيى الملقب بالمرتضى المتوفى (310 هـ)، وله في الفقه: كتاب (الإيضاح). وكتاب (النوازل). وكتاب (جواب مسائل المعقلي). وكتاب (الرضاع). وكتاب (مسائل البيوع). وغيرها.
وأحمد بن يحيى الملقب بالناصر المتوفى (325 هـ)، وله في الفقه: كتاب (مسائل الطبريين). وكتاب (الفقه) أربعة أجزاء.
وقد لُقِّبَ الأئمة السالف ذكرهم بـ-: (أصحاب النصوص)؛ لأنهم قاموا بدراسة نصوص القرآن وما صح عندهم من السنة واستنبطوا من ذلك ما أمكنهم استنباطه من مسائل فقهية، وأفرغوا ذلك في مسائل فقهية نالت إحترام وإجلال جميع فقهاء الزيدية، وحظيت منهم بالدراسة والشرح والتعليق والتخريج على نطاق واسع، حتى أنه لايكاد يخرج عن مقالاتهم إلا النادر القليل من مجتهدي الزيدية.. لامن باب التقليد فأئمة الزيدية قد فتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه في أصول الفقه وفروعه، ولكن من باب الاتفاق في تحرير الدليل وفهمه.(1/9)


ومما يحسن الإشارة إليه هنا أن حرية النظر في المسائل الفقهية وأدلتها التي أتاحها المذهب الزيدي لأتباعه خلق لديهم الجرأة على البحث والنقد على نطاق واسع وذلك ما صير المذهب الزيدي روضة يسرح ويمرح في أرجائها المبدعون، وتتعانق فيها آراء الفقهاء والباحثين، وهو ما مكن كبار أئمة الفقه الزيدي من النبوغ حتى ضاهوا أئمة المذاهب الفقهية الأخرى، فقد اشتهر في تاريخ الزيدية مذاهب فقهية متعددة تشبه في نشأتها وتطورها المذاهب السنية الأربعة، ومن تلك المذاهب:
القاسمية، وهم: أتباع ومقلدوا الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي فيما حصله من مسائل فقهية، وكان معظمهمفي الحجاز والجيل والديلم. قال الإمام أبو طالب الهاروني: إن الديلم كانوا يعتقدون أن من خالف القاسم بن إبراهيم عليه السلام في فتاويه فهو ضال، وكل قول يخالف قوله فهو ضلالة.
الهادوية، وهم: أتباع الإمام الهادي ومقلدوه، ومعظم انتشارهم كان في الجزيرة وخراسان والعراق، واعتنى بفقهه علماء الزيدية عناية فائقة، ولم يكن بينه وبين مذهب جده القاسم كثير اختلاف.
الناصرية، وهم: أتباع الإمام الناصر الأطروش ومقلدوه، وكان معظم أتباعه في العراق وفارس، وكان الجيل يعتقدون أن مخالفة مذهبه ضلال، وقد قام بخدمته جملة من علماء الزيدية.
ورغم تعدد اجتهادات أئمة الزيدية وكثرتها فإن لهم قواعد عامة تجمعهم بحيث يمكننا أن نعتبرها بمثابة أصول مشتركة بالنسبة لهم، ومنها على سبيل المثال:
مراعاة قضايا العقل في إصدار الأحكام، لاسيما ما كان له علاقة بالتحسين والتقبيح.
اعتبار ما صح عن علي عليه السلام موضع احتجاج.(1/10)


ترجيح ظواهر النصوص القرآنية، على كثير من الأحاديث الظنية.
اعتبار إجماع أهل البيت (ع) حجة يجب الأخذ بها.
اعتبار عرض الأحاديث على القرآن خير وسيلة لمعرفة صحتها.
وهذه ثوابت يندر تجاوزها والتغير فيها، ولايصح نسبتها إلى أصول مذهب إمام بمفرده، حتى لايكون من يتحرك في إطارها مجتهد في المذهب فقط.
وبسبب ذلك الثراء الفقهي اعتبر المذهب الزيدي من المذاهب الإسلامية الكبرى، يقول الإمام محمد أبو زهرة: (( وقد أثر عن زيد فقه عظيم تلقاه الزيدية في كل الأقاليم الإسلامية، وفرَّعوا عليه وخرجوا، واختاروا من غير ما تلقوا، واجتهدوا ومزجوا ذلك كله بالمأثور عن فقه الإمام زيد رضي الله عنه، وتكونت بذلك مجموعة فقهية لانظير لها إلا في المذاهب التي دونت وفتح فيها باب التخريج وباب الاجتهاد على أصول المذهب، ولعله كان أوسع من سائر مذاهب الأمصار، لأن المذاهب الأربعة لايخرج المخرجون فيها عن مذهبهم إلى مرتبة الاختيار من غيره، نعم إنهم يقارنون بين المذاهب أحياناً، كما نرى في المغني الحنبلي، وفي المبسوط الحنفي، وفي بداية المجتهد ونهاية المقتصد الذي ألفه ابن رشد من المالكية، والمهذب للشيرازي من الشافعية، ولكن هذه المقارنات إما أن ينتهي المؤلف إلى نصر المذهب الذي ينتمي إليه والدفاع عنه، كما نرى في مبسوط السرخسي، والمغني، وإما أن يعرض الأدلة وأوجه النظر المختلفة من غير ترجيح، ويندر أن يكون اختيار إلا في القليل، كما نرى في اختيارات ابن تيمية إذ قد خرج من هذا النطاق، وقد اختار من مذهب آل البيت مسائله في الطلاق الثلاث، والطلاق المعلق، وكما نرى في(1/11)

2 / 168
ع
En
A+
A-