باب القسامة
إذا قُتِلَ قتيل في بلد أو قرية، ولم يَدَّع أولياء القتيل قتله على/401/ رجل بعينه، وجبت القسامة فيه، وتفسيرها: أن يجمع خمسون رجلاً من أهل تلك البلد أو القرية، يختارهم أولياء المقتول، فيقسمون بالله ما قتلنا ولا عرفنا له قاتلاً ، فإذا حلفوا خلى سبيلهم، وكانت ديته على عواقل تلك البلدة أو القرية، فإن نكلوا عن اليمين أو نكل بعضهم، حُبس الناكل إلى أن يحلف أو يقر، فإن أقر أخذ بجرمه، وإن حلف خلي عنه، وتلزم الدية عواقل من حلف ومن لم يحلف.
قال أبو العباس: فإن نكل بعض الخمسين المختارين، لم يكن لأولياء المقتول أن يختاروا غيرهم. وإن لم يتم عددهم خمسين كررت اليمين على من وجد منهم حتى تتكامل اليمين خمسين، فإن كانوا خمسة وعشرين حلف كل واحد منهم يمينين، وإن كانوا ثلاثين حلف كل واحد منهم يميناً، ثم اختار أولياء المقتول منهم عشرين وكررت عليهم الأيمان، ويكون تكرير الأيمان عليهم على هذا القياس، على أصل يحيى عليه السلام.
وتجب القسامة على الحاضرين من أهل تلك البلدة أو القرية دون النساء والصبيان والعبيد، ومن كان من أهلها ومستوطنها غريباً كان أو أصيلاً ساكناً فيها بكراء أو في ملك؛ فإنهم سواء في دخولهم في القسامة ووجوب اليمين عليهم، ومن كان غائباً من أهلها في الوقت الذي وجد فيه القتيل، فلا قسامة عليه ولا دية.(1/722)
قال أبو العباس: ولا قسامة ولا دية في قتيل يوجد في قبيلة أو في محلة لأوليائه حتى يطلبوها ويدعوها، ولا يصح فيها دعوى من لا إرث له منه، كالأعمام وبني الأعمام مع الأخوة وبني الأخوة، والجد مع الأب، وبني البنين مع البنين، ويصح دعوى جميع من يرثه من الرجال والنساء والأزواج والزوجات، ومن لم يكن له وارث مناسب فالسلطان وليه وله قسامته.
قال رحمه الله: ومن خالفت ملته ملة القتيل من عشائره، فلا دعوى له ولا طلبه في القسامة، فإن كان القتيل نصرانياً أو مجوسياً أو ذمياً وعشائره من أخوته أو عمومته يهوداً أو عَبَدة أوثان، لم يصح لهم على النفر الذين وجد القتيل بينهم/402/ دعوى ولا طلبة في القسامة، ولا يعتبر اللوث في إيجاب القسامة، على أصل يحيى عليه السلام، وهكذا ذكره أبو العباس.
ولا يقتل أحد بالقسامة، ولا قسامة على المدعين، وإذا وجد القتيل بين الذميين كانت القسامة عليهم والدية على عواقلهم، فإن لم تكن لهم عواقل فالدية واجبة في صلب أموالهم، فإن وجد القتيل بين المسلمين والذميين فالقسامة عليهم كلهم، والدية تلزم عواقل المسلمين والذميين.
وإذا وجد قتيل بين قريتين ولم يعلم أن قاتله من أيهما، قيس بين القريتين فأيهما يكون أقرب إلى القتيل فالقسامة تلزم أهلها، وإن وجد قتيل على باب قرية أو في ساحتها، كانت القسامة على أهلها.(1/723)
قال أبو العباس رحمه الله: وكذلك إذا وجد في درب من الدروب غير نافذ، تكون الدية على أرباب الدور التي تشرع إليه أبوابها، فإذا وجد القتيل بين قوم وادعا أولياؤه قتله على واحد بعينه، بطلت القسامة، وكانت البينة على أولياء القتيل، واليمين على المدعى عليه.
وإذا وجد قتيل في قرية وادعا أولياء القتيل قتله على قوم من أهل تلك القرية من غير تعيين دون جماعتهم، لزمت القسامة جميع أهلها، والإمام يحلف باقي أهل القرية، وتلزم الدية جميع عواقل أهل تلك القرية.
ولو أن أولياء القتيل أبرؤوا الذين وجد القتيل فيما بينهم، وادعوا قتله على غيرهم، بطلت القسامة، ولا قسامة على الذين ادعي القتيل عليهم.
فإن عفى بعض الأولياء عنهم وطلب الباقون القسامة، وجبت القسامة، والدية يستحقها من عفى ومن لم يعف، إذا لم يكن العفو قد وقع على الدية، على أصل يحيى عليه السلام.
ولو أن ميتاً وُجد فيما بين قوم، وليس عليه أثر القتل والجراحة، فلا قسامة عليهم ولا دية.
ومن مات في ازدحام من الناس في مسجد أو طواف أو في دار أو في طريق، كانت ديته في بيت مال المسلمين، ولا قسامة فيه، والبهيمة إذا وجدت مقتولة، فلا قسامة فيها، وكل ما لا يلزم العواقل فلا قسامة فيه، وإذا وجد عبد قتيلاً في محلة وجب فيه القسامة، على أصل يحيى عليه السلام.(1/724)
قال أبو العباس/403/: لو اختلف الأولياء الذين يطلبون القسامة في الدعوى، فقالت طائفة: قتلوه عمداً، وقال آخرون: قتلوه خطأ، فالقسامة لهم ثابتة، ويقسم لهم خمسون رجلاً ممن وجد القتيل بينهم بالله ما قتلوه عمداً ولا خطأ؛ لأن العمد في القسامة كالخطأ فيها.
وقال رحمه الله: فإن ادعوا على جماعة معينين من قبيلة أنهم قتلوه، بطلت القسامة وعليهم البينة، وعلى الذين ادعي عليهم قتله اليمين إن أنكروا. قال: فإن شهد عليهم سائر القبيلة بأنهم قتلوه، لم تقبل شهادتهم.
وإذا وجد قتيل في محلة من مدينة، كانت القسامة على أهل تلك المحلة، والدية على عواقلهم، نص على معناه في (الأحكام) .
فإن وجد القتيل في دار، كانت القسامة على رب الدار وعواقله إن كانوا جيرانه، وديته على العواقل، فإن كانت الدار لاثنين أو لجماعة، فالدية على عواقلهم، على أصل يحيى عليه السلام.
قال أبو العباس رحمه الله: وإن كان بالقتيل رمق فقال قبل موته: دمي عند فلان، وشهد به على قوله عدلان من غير قبيلته التي وجد فيها القتل، بطلت القسامة ولا دية عليهم، ويكون الحكم فيه كالحكم في سائر الجنايات. فإن طلب ورثته من بعدُ القسامة من تلك القبيلة، لم يكن لهم ذلك ولا حق لهم قبلهم، فإن شهد بذلك رجال منهم لم تقبل شهادتهم، فإن شهد من غيرهم أيضاً رجلان ممن قرب أو بعد ممن بينهم وبينه عداوة فلا شهادة له. قال رحمه الله: ولا أرى إمضاء شهادتهم في هذا الموضع بتحليفهم، كإمضائها إذا اتهموا بسائر الحقوق.(1/725)
وقال: ولو قال القتيل: دمي عند فلان وفلان بأسمائهما، وشهد لورثته عليهما شاهدان بعد موته، وجب عليهما القصاص إن شهدا لهم بالقتل عمداً، أو بالدية على عاقلتهما إن كان خطأ.
ولو شهد أحد الشاهدين عليهما بأسمائهما وأعيانهما، وشهد الآخر على أحدهما ألزم القصاص أو الدية من اجتمعا عليه، وكذلك لو قال أحدهما: أشهد أن هذا وهذا قتلاه بأعيانهما. وقال الآخر: أشهد أن هذا قتله ورجل معه لا أعلمه. جازت شهادتهما على المجمع عليه.
قال رحمه الله: وإذا وجد قتيلان في قرية أو قبيلة فطلب أولياؤهما القسامة/404/ من أهلها استحلف أولياء كل واحد منهم خمسين يميناً، وإن اقتصروا على خمسين يميناً لم يجز ذلك ولم يبرؤا من القسامة، وكان لكل طائفة من أولياء القتيلين أن يستأنفوا تحليفهم خمسين يميناً على حدة، فإن كان أولياء القتيلين طائفة واحدة فحلفوا لهم خمسين يميناً جاز ذلك، وبرئوا من القسامة.
وقال: إذا كان يأوي ما وجد فيه القتيل خمسون رجلا أو أكثر وأمكن استيفاء الأيمان منهم من غير أن تكرر عليهم، فإن أقسم بعض الخمسين يمينين أو أكثر، ليسقطوا الحلف عن الباقين المختارين لم يجز ذلك، ولم يبرؤا، وكانت الأيمان عليهم باقية حتى يستكملوا على عدد الرؤوس.
قال: وإن اختار الأولياء أن يحلف بعض الخمسين وابتغوا تكرير اليمين عليهم، لم يكن ذلك لهم.(1/726)