باب شرائط صحة الهبة
شرائط صحة الهبة: الإيجاب من الواهب المالك، والقبول من الموهوب له، وأن يكون الموهوب مما يصح بيعه، ويكون معلوماً غير مجهول/284/. قال أبو العباس: إنما يكون معلوماً بأن يكون محدوداً إذا لميكن مشاهداً في يد الواهب، أو يكون في يده مجهولاً، وما يكون مجهولاً نحو أن يقول: وهبت لك جميع ما ورثته عن فلان، وذلك غير مضبوط.
وليس من شرط صحة الهبة القبض، فإذا وهب رجل لرجل شيئاً فقبله صحت الهبة، وإن لم يقبضه الموهوب له، وكذلك الصدقة. ولو قال رجل لرجل: وهبت لك جاريتي فلانة أو عبدي فلاناً أو فرسي. جاز ذلك إذا كان معروفاً.
ولو أن رجلاً وهب لمملوكِ غيرِه شيئاً فقبله المملوك، صح قبوله له، وملكه سيده، وإن لم يقبله العبد لم تصح الهبة وإن قبلها سيده، فإن قال سيد العبد للعبد: لا تقبل، فقال العبد: قد قبلتُ، فالقول قول العبد، وكذلك لو أوصى رجل لعبد رجل بوصية؛ فقبولها إلى العبد لا إلى سيده، فإن قبلها العبد صحت، وإن لم يقبلها لم تصح.
وللرجل أن يهب من ماله ما شاء في حال صحته وأوائل مرضه، فأما عند ثقل المرض وحال الإياس فلا يجوز إلا الثلث، وكذلك القول إذا تصدق بجميع ماله في حال الصحة.(1/522)
وقد قال في (المنتخب) : لا يجوز لرجلأن يهب في دفعة واحدة أكثر من ثلث ماله، وقال فيه إن وهب ثلث ماله وسلمه إلى الموهوب له كان له أن يهب من الثلثين ثلثاً. وقال أيضاً في (المنتخب) : إن وهب أكثر من الثلث كان له أن يرجع فيه. وبنا هذه على أنه لايصح هبة أكثر من الثلث، فإن لم يرجع حتى هلك كان لورثته أن يرجعوا فيه؛ إلا أن يكون وهب ما وهبه على عوض معلوم، فليس له ولا لورثته إلا العوض. وقال فيه أيضاً: ولو أن رجلاً وهب ماله كله لرجل، ثم وهب كله لآخر، ثم وهب لثالث كانوا شركاء في الثلث، يعني لو أراد أن تصح هبته. ولو أن رجلاً وهب ثلث ماله لرجل، ثم وهبه لآخر كان المال للأول.
ولو أن رجلاً وهب لرجل مالاً على أن ينفق عليه طوال عمره، كانت الهبة باطلة، وللمنفق ما أنفق، وكذلك لو استأجره بثلث ماله أو بنصفه على أن يخدمه حتى يموت، كانت الإجارة فاسدة، ولمن خدم أجرة مثله.
ولو أن رجلاً ورث آخر فلم/285/ يطلب الميراثحتى مات، كان لورثته أن يطلبوه، إلا أن يكون الذي ورث وهب نصيبه من الإرث هبة صحيحة لموهوب له بعينه.
ولو أن رجلاً وهب لرجل هبة لا يجوز له الرجوع فيها، ثم باعها، كان للموهوب له أن يأخذها من المشتري، ويرجع المشتري بالثمن على البائع، وإن كانت الهبة يجوزله الرجوع فيها، كان البيع صحيحاً ولم يكن للموهوب له سبيل على المشتري. فإن اُسْتُحِق الموهوب لم يكن للموهوب له أن يرجع على الواهب بشيء؛ إلا أن يكون الواهب قد وهبه على عوض، فإنه يكون له الرجوع عليه بالعوض.(1/523)
ويكره للرجل ألا يساوي بين أولاده في الهبة، وأن يفضل بعضهم على بعض إلا أن يكون بعضهم أبَرّ به وأكثر نفعاً له، فيزيده مكافأة له على بره، فإن فَضَّل بعضهم لا على هذا الوجه نفذ، على ما نص عليه يحيى عليه السلام في (الأحكام) ، وإن كان مكروها.
وقال في (المنتخب) : فإن وهب لبعضهم أكثر مما وهب للآخر على طريقالمكافأة جازت الهبة إلى الثلث ولم يجز فوقها. قال السيد أبو طالب رحمه اللّه: هذا بناه على الأصل الذي تقدم ذكره من أن الرجل لا يجوز له أن يهب من ماله أكثر من الثلث. والتسوية بين الأولاد في الهبة يعتبر فيها استحقاقهم للإرث، على أصل يحيى عليه السلام.
قال أبو العباس رحمه اللّه: لو وهب المشتري ما اشتراه قبل القبض لم تصح الهبة، ولو وهب رجل لرجل ديناً له عليه، جاز ذلك، على قياس قول يحيى عليه السلام.(1/524)
باب الرجوع في الهبة والصدقة
الهبة نوعان: هبة لذوي الأرحام، وهبة للأجانب. فالهبة لذوي الأرحام لا يجوز الرجوع فيها إلا أن يهب الأب لابنه الصغير، فله أن يرجع فيما وهبه له، والهبة للأجانب فله الرجوع فيها.
قال يحيى في (المنتخب) : من وهب ماله كله كان له أن يرجع في ثلثيه. قال السيد أبو طالب رحمه اللّه: هذا قد ذكره في (المنتخب) بناء على قوله في هذا الكتاب إن/286/ الإنسان لا يجوز له أن يهب من ماله أكثر من الثلث. والصحيح من قوله المعمول عليه ما قال في (الأحكام) نصاً من أن الصحيح له أن يهب من ماله ما شاء.
ومن وهب لغيره شيئاً لا على وجه القربة من غير أن يكون العوض مشروطاً ولا معيناً، فاستهلك الموهوب له ذلك الشيء لم يكن له الرجوع فيه، وكذلك القول في الهبة إذا كانت دراهم فخلطها الموهوب له بدراهم مثلها فلم تعرف بأعيانها.
ومن وهب شيئاً على عوض بعينه فلم يعط ذلك العوض، فله الرجوع فيه ما دام ذلك الموهوب قائماً بعينه؛ لأنه يمكن أن يتعذر تسليم العوض للواهب، فإن استهلك ورجع حين علم باستهلاكه صح رجوعه، وإن سكت مع علمه بذلك لم يكن له أن يرجع فيه من بعد.
وإن كان لرجل دين على رجل، فوهبه له لم يصح الرجوع فيه، فإن وهبه على عوض فاسد صح الرجوع، على قياس قول يحيى عليه السلام.
ومن وهب شيئاً على عوض معلوم، فله أن يطالب بالعوض، فإن كان العوض مجهولاً، فالهبة فاسدة يرجع فيها الواهب، إن كانت قائمة بعينها أو في قيمتها إن كانت مستهلكة، على قياس قول يحيى عليه السلام.(1/525)
ومن وهب لغيره شيئاً ولم يقبله الموهوب له لم تصح الهبة، وجاز للواهب الرجوع فيها، وكذلك الصدقة.
وما يتصدق به على الصغير أو يوهب له انتظر بلوغه، فإن قبل بعد البلوغ جاز، وإن لم يقبله وفسخه لم تصح الهبة ولا الصدقة.
ولو وهب هبة لا يجوز له الرجوع فيها ومات الواهب قبل أن يقبضه الموهوب له كان ذلك الشيء له، ولم يكن لورثته منعه منه، وكذلك إن مات الموهوب له كان ذلك الشيء لورثته، ولم يكن للواهب أن يرجع فيه.
ومن تصدق بصدقة لم يجز له الرجوع فيها.(1/526)