الكتاب :كتاب التحرير المؤلف : الإمام أبوطالب يحيى بن الحسين الهاروني |
كتاب التحرير
تأليف
الإمام الناطق بالحق
أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني
عليه السلام
(340هـ - 424هـ)
من إصدارات
مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
ص.ب. 1135، عمان 11821
المملكة الأردنية الهاشمية
www.izbacf.org(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
دور علم الفقه وأطواره
عندما يؤمن الإنسان بربه ويعترف له بالعبودية يكون لزاماً عليه أن يترجم عبوديته إلى أفعال وممارسات، فيُسيِّر أفعاله وأقواله وسائر تصرفاته وفق توجيهات السماء.
ويُعتبر فقه الشريعة الإسلامية الوسيلة المثلى لتحقيق ذلك، فهو بمثابة دستور متكامل إذا تحرك الإنسان من خلاله انسجمت سائر حركاته مع التعاليم الإلهية التي هو مطالب بمراعاتها، وهو السبيل ليس إلى تنظيم حياة الإنسان في نفسه ومع أبناء جنسه فحسب، بل وإلى تنظيم حياته مع محيطه وبيئته، فالفقه قد رسم له كل شيء في حياته حتى كيفية التعامل مع المخلوقات الصماء البكماء.
ومما لاشك فيه أن فقه الشريعة الإسلامية كغيره من العلوم والمعارف مر بأطوار متعددة وكانت له أدوار مختلفة، بل قد يكون أكثر العلوم الإسلامية حركة عبر التاريخ، ذلك لأن المطلوب منه أن يواكب تغير الزمن ويقدم حلولاً لكل ما يستجد في حياة الناس.
ففي عهد رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم كانت تعاليم الشريعة تصل إلى الناس غضة طرية عن طريق رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم؛ فقد كان الصحابة يأخذون عنه فقههم مباشرة، فيتعلمون منه جميع ما يحتاجون إليه، ويسألونه عن كل ما يلتبس عليهم، وبذلك سقط عنهم كثير من الكلفة في تمييز الأخبار وامتحان الناقلين، والتمحيص والتأمل في دلالات الألفاظ والتفتيش عن المعاني.(1/3)
وبموت رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم توقف ذلك الإمداد السماوي بعد أن رسم للبشرية المنهج الذي يجب أن تمضي عليه، ووضع الأسس التي يمكن أن تتحرك من خلالها لمعرفة أحكام ما سيحدث ويتجدد في حياة الناس.
وفي عصر الصحابة واجه المسلمون تساؤلات عن تحديد المواقف العملية تجاه بعض المستجدات التي لم يفهم عوام الناس موقف الشرع منها؛ حين لم يرد بحكمها نص صريح في القرآن أو السنة، فتوجه فقهاء الصحابة إلى إمعان النظر في مصادر التشريع ومراجعة التركة العلمية التي ورثوها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فاستخرجوا منها ما تتطلبه الساحة من الأحكام تجاه مختلف القضايا الحادثة، معتمدين في ذلك على ثوابت وأصول مستمدة من العقل واللغة والشرع.
وشهد عصر التابعين متغيرات كثيرة كان لها أثر ملموس في الدفع بالحركة الفقهيه إلى الأمام، من أهمها:
دخول الدعوة الإسلامية بلداناً كثيرة متعددة الأعراف مختلفة الأوضاع يتطلب التعامل معها شيئاً من المرونة والشمولية من جهة، والدقة في التحرك وفق مقاصد الشريعة من جهة أخرى.
بٌعْد الزمان عن عصر التشريع مما أدى إلى شيء من الغموض في بعض النصوص والتردد في قبولها.
تنامي الميراث الثقافي، حيث ترك لنا الصحابة طائفة كبيرة من الأحاديث النبوية إلى جانب اختلافهم إما في نقلها أو في فهمها.
انعكاسات الصراع السياسي على الحياة الثقافية حيث شجعت السياسات بعض التيارات الفكرية وتآمرت على البعض الآخر، وتدخل الحكام تدخلاً مباشراً في تقرير مصير بعض المفاهيم والأحاديث بما يتناسب مع أوضاعهم السياسية.(1/4)
كل تلك المتغيرات وضعت الفقهاء - الذين برزوا في ذلك العصر - أمام مهمة صعبة؛ لأن عليهم أن يراعوا في إجتهاداتهم أموراً كثيرة إضافة إلى الحرص على براءة الذمة أمام الشرع.. وهو ما حدث بالفعل، فقد تردد على النص الواحد عشرات الفقهاء واعتصرته مئات العقول بهدف الحصول على رأي فقهي مدعوم بالأدلة والبراهين التي تؤكد ارتباطه الوثيق بروح الشريعة الإسلامية الغراء.(1/5)
فقه الزيدية عبر القرون
كان الإمام زيد بن علي عليه السلام المتوفى (122هـ) من مشاهير فقهاء التابعين وتابعيهم، وله مشاركة فاعلة في ترسيخ دعائم الفقه الإسلامي ودراسة نصوص القرآن والسنة، وقد تميز فقهه بمميزات عدة منها:
أنه نشأ في أجواء حرة بعيداً عن تأثير الدول وإملاءآت الحكام، ولهذا لم يكن أمامه شيء يراعيه إلاوضوح البرهان وقوة الدليل.
أنه جعل للعقل حضوراً ملموساً في تقييم الأدلة وإعمالها، فلا هو حشره في ما لايعنيه، وحمله ما لايطيق، ولاهو عطله عن التأمل والحركة في المساحة التي يمكنه أن يتحرك فيها.
أن الإمام زيداً كان يجمع في اجتهاده بين فقه الأدلة وفقه الواقع، وهذا بدوره يعطي المسائل التي اجتهد فيها أبعاداً مختلفة.
أنه اعتمد في الدرجة الأولى على نصوص القرآن الكريم باعتباره كتاب الهداية المصون الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والجدير بالذكر هنا أن الإمام زيداً قد ألف في موضوع الفقه: كتاب (المجموع الفقهي والحديثي)، المعروف اليوم باسم (مسند الإمام زيد)، وقد أخذ عنه الإمام أبو طالب - مؤلف هذا الكتاب - بعض النصوص، كما ألف كتاب (مناسك الحج والعمرة). وهذان الكتابان من أشهر كتب الفقه وأقدمها، وقد ذكر غير واحد أن كتاب (المجموع) أقدم كتاب جمع في الفقه الإسلامي.(1/6)