[ 384 ]
الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الالباب) (67) فتوهم أن طعام أهل الكتاب الذي لهم رب الارباب، هو ذبائحهم التي يذبحون، ولغير قبلة الاسلام بها يتوجهون، وظنوا أن المحصنات اللواتي أطلق نكاحهن هن المقيمات على دينهن وكفرهن، وليس ذلك كما ظنوا وتوهموا، ولا على ما قالوا وذكروا، بل الطعام الذي أحل الله عزوجل، لاهل الاسلام هو ما لا تقع عليه الذكاة من طعامهم، مثل الحبوب وغير ذلك من إدامهم، وكذلك المحصنات من أهل الكتاب، فهن المؤمنات التائبات المسلمات اللواتي قد رجعن إلى الحق وقلن في الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدق، ودخلن في الايمان، وتركن ما كن عليه من الباطل والجحدان، فأطلق الله سبحانه للمؤمنين نكاحهن من بعد توبتهن وإيمانهن ودعاهن في هذه الحال بالكتاب وإن كن قد آمن بالله عزوجل وصدقن برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما دعى من آمن من أهل الكتاب في غير هذا المكان بما كان فيه أولا من أهل الكتاب فقال سبحانه: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بأيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) (68) فسماهم بالكتاب، ونسبهم إليه، وهم خارجون مما كانوا فيه تائبون، وإلى الله عزوجل من ذلك منيبون، وبرسوله وما أنزل الله سبحانه على لسانه مصدقون، فهذا معنى ما قال الله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله
---
ص 384 " (67) آل عمران 7. في نسخة (ودعاهن في هذه الآية بالكتاب).
(68) آل عمران 199.
---(1/384)


[ 385 ]
مما ذكر من الاطعمات، وما أطلق من نكاح نساء أهل الكتاب المحصنات، لا ما توهم الجاهلون، وذهب إليه المبطلون. ومن الاحتجاج على من قال بمثل هذا الشنيع من المقال أن يقال لهم خبرونا عن هذه الزوجة الذمية يهودية كانت أو نصرانبة، هل يجب لها ما قال الله سبحانه وجعله وحكم به للازواج في المواريث وفعله حين يقول عزو جل: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصة توصون بها أو دين) (69) فهل يجب لها الميراث في هذه الحالات وهو لها زوج وهي له زوجة من الزوجات؟ فإن قالوا: نعم أبطلوا قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقالوا: في ذلك بخلاف ما قال: به عليه السلام فيه حين يقول: (لا يتوارث أهل ملتين مختلفتين) وهذان بلا شك أهل دينين مختلفين، وإن قالوا لا يتوارثان، لما جاء عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أبطلوا ما حكم به للزوجين ذو الجلال والطول، ويقال لمن قال بذلك: ما تقول وما إليه إعتقادك يؤول في مسلم تزوج ذمية فرزق منها نسلا وذرية ثم مات ولدها، ولم يخلف من الورثة غيرها أتقولون إن ميراثه لها دون المؤمنين أم تقولون إنه لغيرها؟ فإن قالوا: هو لها دون غيرها خالفوا الامة في قولها، وإن قالوا: هو للمسلمين لا لها قيل لهم سبحان الله وكيف قلتم ذلك وجعلتم الامر فيه كذلك وهي أمه التي ولدته لم يكن على دينها فانتقل عنه إلى الايمان ولن تكن على دينه فانتقلت إلى الذمية والجحدان، وإنما تزوجها أبوه وهي على كفرها فأولدها وهي على دينها نزل ولدهاعن
---
ص 385 " (69) النساء 12.
---(1/385)


[ 386 ]
كبدها ونشأ في حجرها، لم تتغير أمه عن حالها التي كانت أولا عليها ولم ينتقل إبنها من الحال التي هو فيها، أفيحرمان الميراث لحدث أحدثاه؟ أو لسبب بعد إجتماعهما إكتسباه؟ وقد يعلم أن الله سبحانه عدل، لا يجوز في كبير ولا صغير من الامور فهل يجوز على الله في عدله وجلاله ورحمته ومحاله أن يطلق لابي هذا الغلام نكاح أمه، ويخرجه منها، ويجعله ولدها، ثم يمنعه ميراثها، ويحرمه مالها، ولم يكن منه انتقال ولا منها، ولا تحرف عن دينه ولا دينها، الذي أباح لابيه عليه وفيه نكاحها، وأحل له مقاربتها، وأجاز له مضاجعتها، والبذر في موضع حرثها، وسوغه ذلك، وجعل نكاحه لها نكاحا جائرا حلالا سائغا، حتى إذا فعل ما أجاز الله سبحانه له من ذلك، وأخذ ما أطلق له ربه كذلك، فغشيها بأمر خالقه، وأولدها ما رزقه الله عزوجل من ذريته، حجب الله سبحانه ولدها عن مالها، وحرمه أكل ميراثها، وقد ورث غيره من أمه وجعل لامه نصيبا في ماله، وأنزل ذلك مفسرا في القرآن، وبينه في الوحي غاية البيان، فأعطى غيره وحرمه على غير شئ أجترمه، ولا حدث أحدثه، فتعالى الله عما يقول الجاهلون، وينسب إليه المبطلون؟! بل الله عزوجل أطلق في قولهم وأجاز في أصل زعمهم ومذهبهم لابي هذا الغلام نكاح من ليس من أهل الاسلام، فنكح ما أطلق الله سبحان له، وبذر فأخرج الله بذره في الحرث الذي رزقه ووهبه، فلم يتعد ما به أمر، ولم يخرج إلى ما منه حذر، ولم يغش ما عنه زجر، بل هو على الطريق المستقيم، وهو في ذلك كله مرض للاله الكريم، فهل يجوز على الله سبحانه في عدله وجوده وكبريائه أن يطلق لعبده نكاح أمة حرة من إمائه، ثم يحرمه ميراثها، ويحرم ذلك ولدها، الذي جعله الله سبحانه من أبيه ومنها، وأخرجه مما أمر به من النكاح، لا مما حرم من السفاح، ثم
---(1/386)


[ 387 ]
يمنعه مما جعل لغيره من جميع عبيده؟! فلا بد لهم من القول: بأحد ثلاثة معان: إما أن يقولوا: إن الله عزوجل أطلق للمسلمين وأجاز، وأحل نكاح الذميات اليهوديات والنصرانيات، فيلزمهم أن يورثوهن من أزواجهن ويورثوا أزواجهن منهم ويورثوا من كان من أبنائهم ما لهن، ويورثوهن من أبنائهن ما سمى الله لهن، أو ينسبوا الظلم إلى إلههم، ويقولوا به في خالقهم، إذ كانوا يزعمون أنه أطلق لهم نكاح الذميات واستيلادهن، وجعلهن زوجات كغيرهن، وأوجب لهن مهور مثلهن، وأوجب العدتين عليهن، ثم حجبهن الله تعالى عن ذلك عن ميراث أزواجهن وأولادهن، وحجب أزواجهن وأولادهن عن وراثة مالهن، وقد أطلق لغيرهم الوراثة، ثم منعهم هم الوراثة، عن غير جرم إجترموه، ولا عصيان افتعلوه، بل الازواج فعلوا ما أجاز الله سبحانه وأطلق لهم، والاولاد فهو عزوجل أوجدهم وخلقهم، ولا ذنب لهم فيما أطلق وفعل غيرهم. أو أن يرجعوا إلى الحق فيقولوا إن الله عزوجل لم يجعل، ولم يطلق ولم يجز ولم يخلق ما قالوا عليه به من الامر بنكاح الذميات، كما أذن وأمر بنكاح المسلمات، فيكونوا في ذلك مصيبين، ولربهم تعالى غير مجورين، ولو كان ذلك شيئا أطلقه الله سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه، لذكر مواريثهم في الكتاب بتحريم أو غير ذلك من الاسباب كما ذكر غيرها مما هو لا شك دونها، ولذكر ذلك الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشرعه وأبانه لاهل الاسلام، وكيف لا يكون لو كان يقول الجاهلون تفسيره في الكتاب والسنة يعلمه العالمون، والله يقول ذو الجلال والسلطان فيما نزل على نبيه من الدلائل والفرقان: (ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون) (70) وهذا فأعظم ما يحتاج إليه
---
ص 387 " (70) الانعام 38.
---(1/387)


[ 388 ]
من الشئ ففي أقل مما قلنا، وبه في ذلك احتججنا ما كفى عن التطويل وأجزا وأغنى بحمد الله وشفى من كان للحق طالبا وفي الهدى والصدق راغبا. ألا تسمع كيف يقول الرحمن مما نزل على نبيه من الفرقان: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم الآية) (71) ولا مودة يا بني أكثر ولا عند من عقل أكبر من الافضاء والمداناة والمقاربة والملامسة والمناكحة والمباشرة لما في ذلك من السرور من المضاجع بالضجيع، وذلك فلا يعدم أبدا من رفيع أو وضيع، ولا سيما إذا صادف منها زوجها موافقة، وكانت له معينة رافقة، مع ما يكون بينهما من التواد على الولد وغير ذلك، مما لا يشرك فيه من أمر الزوجين أحد، حتى ربما كانت الزوجة الموافقة المطاوعة الباذلة المواسية الشفيقة المتابعة أحب إلى صاحبها من أمه وأبيه، وعصبته وحامته، وقرابته وماله وولده وإخوانه، لا يجد عن ذلك بعلها إنحرافا، ولا تستطيع عنه أبدا إنصرافا ولو حرص على ذلك بكلية حرصه، وجهد عليه بغاية ما ركب فيه من جهده، فهل يكون من الموادة أكثر مما ترى وتسمع في ذلك وتعلم وتلقى، فنعوذ بالله من العماية والردى، ونسأله السلامة في الدين والدنيا، فلقد جهل غاية الجهل، وارتكب أكبر ما يكون من الفعل، وقال على الله عزوجل بالزور والبهتان، وخسر يوم حشره غاية الخسران - من قال: إن الله تقدست أسماؤه وعز بكريم ولايته أولياءه أطلق لعبد من عبيده نكاح أمة من إمائه، وقد يعلم سبحانه ما في الا مناكحة من الموالاة، ثم أمره فيها بالمناصبة والمعاداة، وقد يعلم سبحانه أنه لا يطيق بعضها عند ما يكون
---
ص 388 " (71) المجادلة 22.
---(1/388)

71 / 198
ع
En
A+
A-