[ 231 ]
كان قبلهم، لا يأكلون ولا يشربون فيه نهارا ولا ينكحون فيه نسائهم حتى ينسلخ عنهم شهرهم وينقضي فيه صومهم، لا يأتونهن ليلا ولا نهارا فأقاموا (8) بذلك يصومون النهار، ويأكلون وقت الافطار إلا أن يناموا، فإن ناموا لم يجز لهم أكل ولا شرب، حتى يكون من الغد عند دخول الليل، حتى كان من أمر الانصاري ما كان وهو رجل يقال له أبو قيس: واسمه صرمة بن أنس، فعمل في بعض حوائط المدينة فأصاب مدا من تمر فأتى به امرأته (9) وهو صايم فأبدلته له بمد من دقيق، فعصدته له فنام لما به من الوهن والتعب قبل أن تفرغ مرأته من طعامه، ثم جاءت به حين فرغت، فأيقظته ليأكل فكره أن يعصي الله ورسوله فطوى تلك الليلة مع ما تقدم من يومه، ثم أصبح صائما من غده، فمر برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرآه مجهودا فقال له: (لقد أصبحت يا أبا قيس طليحا) فأخبره بما كان من خبره فسكت صلى الله عليه وعلى آله عنه، وكان عمر بن الخطاب في رجال من أصحابه قد أصابوا نساءهم في شهر رمضان، فخافوا أن يذكر أمر أبي قيس في شئ من القرآن فيذكروا معه، فقام عمر في أولئك الناس. فقالوا استغفر لنا يارسول الله فإنا قد واقعنا النساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما كنت جديرا بذلك يا عمر)، فأنزل الله تعالى في أبي قيس وعمر وأصحابه ما أنزل، ونسخ أمر الصيام الاول فقال جل جلاله وعظم عن كل شأن شأنه: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالان باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى تبين لكم الخيط
---
ص 231 (8) في نسخة فأقاموا كذلك.
(9) في نسخة وهم صيام.
---(1/231)


[ 232 ]
الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) (10) فأطلق سبحانه الاكل والشرب في الليل كله قبل النوم وبعده حتى يتبين لهم الخيط الابيض من الخيط الاسود. والخيط الابيض فهو عمود الفجر ونوره، والخيط الاسود فهو الليل وظلمته، يقول: كلوا واشربوا حتى يخرج الليل وظلامه، ويدخل النهار وإسفاره (11)، ومعنى دخوله هاهنا فهو قربه وغشيانه ودنوه وإتيانه فللناس أن يشربوا ويأكلوا حتى يخافوا هجوم الصباح، فإذا قرب دنو الصباح وجب عليهم أن يكفوا وعن المأكول والمشروب يمتنعوا، وأجاز لهم سبحانه غشيان نسائهم متى أحبوا من ليليهم حتى يخافوا هجوم صبحهم فإذا دنا ذلك اعتزلوهن، وكفوا عن مجامعتهن وإتيانهن وقال سبحانه: في من كان من عباده مريضا لا يستطيع لضعفه صياما، وفي الشيخ الكبير الذي قد عجز عن أداء فرض الصيام: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) (12). قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: معنى قوله سبحانه وعلى الذين يطيقونه هو وعلى الذين لا يطيقونه فطرح لا وهو يريدها والقرآن فهو عربي مبين، وهذا فموجود في لغة العرب، وفي آي كثير من الكتاب موجود، والعرب تأتي بلا في كلامها وهي لا تريدها، وتطرحها وهي تريدها، استخفافا لها، فأما مجيؤها بالكلام الذي تريدها فيه وقد
---
ص 232 (10) البقرة 187.
(11) في نسخة وإشراقه.
(12) البقرة 184.
---(1/232)


[ 233 ]
طرحتها منه فهو مثل ما ذكرها (13) في الآيتين المتقدمتين، وفي مثل ذلك ما يقول الشاعر: نزلتم منزل الاضياف منا فعجلنا القرى أن تشتمونا فقال: فعجلنا القرى أن تشتمونا، وإنما أراد فعجلنا القرى أن لا تشتمونا، فطرحها وهو يريدها وأما ما كان من كلامها مما تثبت لا فيه وهي لا تريدها، مثل قول الشاعر: بيوم جدود لافضحتم أباكم وسالمتموا والخيل تدمي شكيمها فقال: لافضحتم أباكم وإنما أراد بيوم جدود فضحتم أباكم فأدخل لا لغير سبب ولا معنى صلة للكلام، والشاهد لذلك في كتاب الله تعالى قول الله سبحانه: (لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شئ من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) (14) فقال: لئلا يعلم أهل الكتاب، وإنما أراد تبارك وتعالى: ليعلم أهل الكتاب ومن ذلك قول موسى صلى الله عليه (يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري). فقال: ألا تتبعني، وإنما أراد أن تتبعني، وهذا عند العرب فأعرب إعرابها، وأفصح ما تأتي به من خطابها أن تطرح لا وهي تريدها فيخرج لفظ كلامها لفظ إيجاب ومعناه معنى نفي، وتثبت، لا وهي لا تريدها فيخرج لفظ كلامها لفظ نفى ومعناه معنى إيجاب، وكذلك تفعل أيضا بالالف وحدها تطرحها وهي تريدها وتثبتها وهي لا تريدها فيأتي لفظ ما طرحتها منه لفظ نفي، وإن كان معناه معنى إيجاب ويأتي لفظ ما أثبتتها فيه وهي لا تريدها لفظ شك، وإن كان معناه معنى خبر وإيجاب، فأما ما طرحتها منه وهي تريدها فمثل قولها
---
ص 233 (13) في نسخة فهو مثل ما ذكرنا في الآيتين الاوليين.
(14) الحديد 29.
---(1/233)


[ 234 ]
لا تنهض بنا في كذا وكذا، لا تكلم بنا فلانا في أمر كذا وكذا، فيخرج لفظ هذا الكلام لفظ نفي ونهي، ومعناه معنى إيجاب وأمر، أراد القائل ذلك ألا تنهض بنا، ألا تكلم بنا، فلانا، فطرحها وهو يريدها، وفي ذلك ما يقول له سبحانه: (لا أقسم بيوم القيامة) ويقول: (لا أقسم بهذا البلد) (15) يريد ألا أقسم بيوم القيامة ألا أقسم بهذا البلد فطرح منهما الالفين وهو يريدهما، وأما ما تثبتها فيه وهي لا تريدها فهو مثل قول القائل: كلم لي زيدا أو عمرا، يريد كلم لي زيدا أو عمرا، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) (16) فقال: أو يزيدون فخرج لفظها لفظ شك وإنما معناها معنى إيجاب وخبر، أراد وأرسلناه إلى مائة ألف ويزيدون فقال: (أو يزيدون) (17) فأثبتها وهو لا يريدها فعلى ذلك يخرج معنى قول الله سبحانه: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين) (18) يريد وعلى الذين لا يطيقون الصيام ممن كان ذا ضعف وهلاك من الانام، فدية طعام مساكين، يقول: يطعم ثلاثين مسكينا عن الشهر كله عن كل يوم مسكينا غداه وعشاه، ثم قال: (فمن تطوع خيرا فهو خير له) (19) يريد سبحانه من زاد فأطعم عن كل يوم مسكينين وحمل على نفسه وأن أضر ذلك به في بعض حاله فهو خير له، ثم قال جل جلاله: عن أن يحويه قول أو يناله في المريض والمسافر: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر
---
ص 234 (15) القيامة 1.
(16) الصافات 147.
(17) الصافات 147.
(18) البقرة 184.
(19) البقرة 185.
---(1/234)


[ 235 ]
فعدة من أيام أخر) (20) فأطلق للمريض والمسافر الافطار وحكم عليهم بقضاء ما أفطروا من الايام. ثم قال سبحانه: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (21) فأخبر بييسيره على عباده وتخفيفه عنهم بما أجاز لهم من الافطار، وترك الصيام الذي لم يجز تركه لاحد مقيم من الانام ثم قال سبحانه: في ايجاب القضاء لما أفطر المسافرون من أيامهم التي أجاز لهم إفطارها في أسفارهم (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) (22). ثم قال سبحانه: فيما حرم من مباشرة النساء على المعتكفين في مساجد رب العالمين: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها) (23) فحرم سبحانه النساء على من اعتكف في الليل والنهار فلا يحل لمعتكف أن يطأ امرأته حتى ينقضي اعتكافه، ولا يكون إعتكاف إلا بصيام، والاعتكاف فهو إقامة الرجل في المسجد لا يدخل بيتا غيره ولا يخرج منه إلا لحاجة لا بد له منها، أو في شئ مما يرضي الله سبحانه فيه، والصوم مع الاعتكاف سنة من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جعلها على المعتكف.
باب القول فيما جاء في فضل صيام شهر رمضان
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: بلغنا عن زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال صعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم المنبر فقال: (يا أيها الناس إن
---
ص 235 (20) البقرة 185.
(21) البقرة 185.
(22) البقرة 185.
(23) البقرة 187.
---(1/235)

41 / 198
ع
En
A+
A-