[ 219 ]
وأدى به فطرته، وإن لم يجد ذلك ولم يمكنه فهو دين عليه إلى وقت رجوع ماله إليه فإذا صار إليه من ماله ما يؤدي عنه زكاته زكى منه، وأخرج ما كان عليه، وإنما أمرنا بإراغة السلف لان يكون قد إجتهد حتى بلغ المنتهى، وجاز له من بعد ذلك الترك لاخراج زكاته إلى وقت مقدرته، فرأينا له الاجتهاد في ذلك، فإن لم يجده بحيلة كان ممن قال الله سبحانه: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (58).
(وإلا ما آتاها) (59).
باب القول فيمن كانت له ثمرة من رطب أو عنب أو غيره تجب في مثلها الزكاة ولم يمكنه تركها إلى وقت يبسها بسبب من الاسباب مخافة عليها
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: من كان له نخل يسير أو عنب يسير وكان يحتاج إلى أكله رطبا أو بيعه، ولم يمكنه أن ييبسه ولا أن يترك مقدار ما يجب عليه من ذلك في شجره مخافة عليه من التلف، فلا بأس أن يخرجه عند وقت كمال جودته واستوائه كله إذا لم يبق فيه بلح ولا خضرة وصار إلى الحد الذي ينتفع به أهله، ولا يسقط عنهم فيه بعضه ويدفعه إلى أربابه بخرصه رطبا كما يخرص النخل كلها لان خرص كل رطب خلاف خرس اليابس، فيجب عليه أن يخرجه بخرصه في روس النخل معدلا تمرا، ولا يخرجه رطبا كيلا ويحتاط على نفسه في ذلك. وإنما يجوز له أن يخرج ذلك إلى أصحابه الذين جعله الله لهم على ما ذكرنا إذا لم يكن إمام يقبضه، ويجوز له دفعه إليه، فأما إذا كان إمام فهو الناظر في ذلك إن أحب أن يأخذه رطبا أخذه وإن أحب أن يأمره
---
ص 219 (58) البقرة 289.
(59) الطلاق 7.
---(1/219)
[ 220 ]
بتركه في روس شجرة، ويأمر الامام به من يحفظه فعل، وإن رأى أن يأمر ببيعه فعل، وإنما أحببنا لمن عدم الامام أن يخرج زكاة تلك الثمرة رطبة على حالها ويسلمها عند وقت جودتها إلى أربابها لان يكون قد أخرج زكاة كل شئ منه وبذلك جاءت السنة، فإذا كان شجر هذا يذهب كله رطبا، ولا ييبس صاحبه منه شيئا أحببنا له أن يخرج زكاته منه دون غيره
باب القول في تفسير مخارج الزكاة وتفسير معانيها وشرحها في الكتاب والسنة واللغة
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: تخرج الزكاة في اللغة على ثلاثة معان فأولها: زكاة الابدان وتزكيتها بما يدنيها من الله ويقربها من الاعمال الزاكية المزكية عند الله للمؤمنين، المطهرة لهم من دنس رجس الفاسقين وذلك قول الله سبحانه: (قد أفلح من زكاها) (60) يريد قد أفلح من طهرها من عصيان الله ونقاها، حتى زكت عند الله تعالى بالطاعات، وكرمت عنده باكتساب الخيرات ومن ذلك قوله سبحانه: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) (61) يقول: قد أفلح من تزكى أي قد أفلح من زكى نفسه بالطاعة لله فزكى، وخافه في معاده فآمن به، وذكر اسم ربه فصلى، وأطاع الله سبحانه وأتبع أمره وأتقى وجنب عن معاصيه، وراقبه في نهيه له فانتهى. ويقول سبحانه في ذلك: فيما حكى عن نبيه موسى صلى الله عليه وسلم: (أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا) (62) فأراد بقوله: زاكية يريد نفسا لم تعلم عليها سوءا فتخرجها به عن طريق التقوى، فسمى صلى الله عليه وسلم ذلك
---
ص 220 (60) الشمس 9.
(61) الاعلى 14.
(62) الكهف 74.
---(1/220)
[ 221 ]
الغلام نفسا زاكية إذ غاب عنه أمره ولم يدر ما علم غيره من أمره ومن ذلك قول الله سبحانه: (وسيجنبها الاتقى الذي يؤتي ماله يتزكى) (63) يريد سبحانه يتقرب إلى الله سبحانه فيقرب إليه بالانفاق والاخراج لماله في طاعة ربه، والاقراض لخالقه تزكية منه بذلك لبدنه، وتزيدا منه في خالص دينه، وليس الزكاة الواجبة، يعني بذلك الرحمن، ألا تسمع كيف يقول فيما نزل من النور والفرقان: (وما لاحد عنده من نعمة تجزي إلا إبتغاء وجه ربه ألاعلى) (64) ولو كانت زكاة الاموال هي المذكورة هاهنا لم يقل وما لاحد عنده من نعمة تجزى، لان الزكاة شئ من الله حكم به، وجعله لكل فقير معسر، عند كل ذي جدة موسر.
(والوجه الثاني): فهو ما فرض الله سبحانه على الخلق من أداء الزكاة وإخراجها عند وقتها من أموالهم وذلك قوله سبحانه: (وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة) (65). وقوله: " وأتوا حقه يوم حصاده ". وقوله: لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (66) فهذا معنى كل جزء يخرج من أجزاء أموالهم، وليس كالتزكية لانفسهم بأعمالهم.
(والمعنى الثالث: فهو سنة من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم واجبة على المسلمين، وهي زكاة فطرهم التي يخرجونها يوم عيدهم، عن كل أنسان منهم، صغيرهم وكبيرهم، وحرهم ومملوكهم).
باب القول في فنون الزكاة
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: زكاة أموال العبيد على
---
ص 221 (63) الليل 17.
(64) الليل 19.
(65) البقرة 43.
(66) التوبة 103.
---(1/221)
[ 222 ]
مواليهم، عليهم أن يخرجوها مما في أيدي عبيدهم أو مما في أيديهم، أي ذلك شاؤا فجايز لهم، لان عبيدهم وما ملكوا لهم فلذلك قلنا إن زكاة أموالهم عليهم. قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: وكذلك أم الولد والمدبر زكاة أموالهم على سيدهما لانه لم يبتهما بعتق وهو مالك لهما، وإذا كان مالكا لهما فهو مالك لاموالهما. قال: واما زكاة مال المكاتب الذي أكتسبه المكاتب بعد مكاتبه سيده له وشرطه ما شرط من الثمن عليه وإشهاده بذلك له على نفسه فلا زكاة عليه حتى يعتق المكاتب بأدائه إلى سيده ما كاتبه عليه، أو يرجع بالعجز عن أداء ذلك في ملك سيده، فأيهما صار المال إليه زكاة عما مضى من السنين، وإن عتق العبد وأدى ما كوتب عليه فالمال ماله وواجب عليه تزكيته وإن عجز فالمال مال سيده وعليه أن يزكيه، (67) وإنما قلنا إنه لا يزكي حتى يتبين أمره وأوجبنا تزكيته لما مضى من السنين على من صار له لان هذا المال مالهما (68) جميعا مشرفان عليه، لم يصح ملكه لاحدهما، ولم يخرج الطمع فيه من أيديهما، لان السيد يقول: إن عجزت ملكتك ومالك، والعبد يقول: إن أديت إليك ما كاتبتني عليه طرا لم تأخذ من مالي درهما، فلما كان أمر المال أمرا ملتبسا، (69) لم توجب على أحدهما أن يزكي مالا لا يدري هوله أو لغيره، ولم ير أن يضل ويبطل ما في هذا المال من الزكاة فجعلنا أمره كأمر مال كان دينا لرجل على رجل فأوجبنا على صاحبه إذا أقتضا دينه أن يزكيه لما مضى من السنين. وقال: في رجل زرع أرضا فلما حصدها باع ثمرها
---
ص 222 (67) في نسخة وعليه تزكيته.
(68) في نسخة مال لهما.
(69) فلما كان أمر المال كذلك أمرا ملتبسا.
---(1/222)
[ 223 ]
من رجل جزافا وهو في سنبله وأخذ الثمن منه ثم أتى المصدق فوجده قد باعه فإنه يأخذ ما يجب فيه منه ويرجع المشترى على البايع بقيمة ما أخذ المصدق من ذلك، وقد قال غيرنا: إنه يجزيه أن يأخذ من البايع قيمة ما يجب له في ذلك الزرع، ولا يأخذ من المشترى شيئا، ولسنا نرى ذلك لانه يجب على صاحب الزرع أن يخرج عشر زرعه منه لا من غيره، فإذا أخطأ رد عن خطائه ولم يسوغ له ما لا يسوغ، لان الثمرة التي أوجب الله فيها ما أوجب قائمة بعينها في يد هذا المشتري الذي أشترى ما لا يجوز له أن يشتريه، فعليه أن يرده إلى أصحابه، ويرجع بقيمته على من باعه إياه ولو جاز أن يأخذ من البايع عشر ما أخرجت أرضه نقدا لجاز أن يؤخذ عشر الحنطة من التمر، وعشر التمر من الحنطة، وأن يأخذ من ذلك وفيه نقدا ذهبا وفضة، وهذا خلاف قول الله سبحانه حين يقول: (وءآتوا حقه يوم حصاده) (70) لانه أراد بقوله: (وءآتوا حقه يوم حصاده) (71) أخرجوا منه ما يجب فيه، وفي ذلك ما قال (72) رسول الله صلى الله عليه وآله: (الحنطة من الحنطة، والتمر من التمر والخف من الخف والظلف من الظلف)، قال: فإن لم يأت المصدق حتى أستهلك المشترى الطعام، فهذا خلاف المسألة الاولى، لان الطعام كان قائما في الاولى بعينه، (73) وهو في هذه مستهلك فله أن يأخذ من البايع عشر قيمة الطعام، وكذلك لو أستهلكه صاحبه الذي باعه وبين ما أستهلك وما لم يستهلك فرق بين عند من عقل وفهم. قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: وكل مال تلف قبل
---
ص 223 (70) الانعام 141.
(71) الانعام 141.
(72) وفي نسخة وفي ذلك ما يقول رسول الله.
(73) في نسخة لان الطعام كان في الاولى قائما بعينه.
---(1/223)