[ 97 ]
الاولتين، وسبح في الآخرتين بما قال الله عزوجل من قوله: (فاقرؤا ما تيسر من القرآن) (29) بأوضح ما يكون من الحجة والبرهان ثم يقال لمن قال ذلك: ألسنا وإياكم مجمعين، والناس معنا أجمعون على أنه لا يجهر في الآخرتين من كل أربع وفقا ولا في الثالثة من المغرب أصلا فلا يجد بدا من أن يقول نعم نحن وغيرنا مجمعون معك على ذلك وبه قائلون، فإذا قال: ذلك وكان الامر عنده كذلك قيل له، فهل في القرآن فيما نزل الله من النور والبرهان شئ هو أعظم من سورة الحمد لانها أم الكتاب ولما فيها من أسماء الله رب الارباب وتوحيده جل جلاله وتقدست سبحانه أسماؤه وفيما عظم الله من قدرها وشرف سبحانه من أمرها ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله فيها أنه قال: (والذي بعثني بالحق نبيا ما في التوراة ولا في الانجيل الكريم ولا في الزبور ولا في الفرقان العظيم مثلها وانها للسبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) ومن ذلك ما يروى (أنها لم تقرأ على مريض قط الا شفي ولم يقرأها مكروب إلا كفي ونجي ولا توسل بها أحد إلى الله سبحانه إلا أعطي) فإذا قال: إنها لكذلك وعلى أفضل من ذلك قيل له فإذا كانت عندكم كذلك فلم أخفيتموها ولم تجهروا في صلاة الليل بها فيما تقرأونها فيه وغيرها وبأي سبب قرأتموها في الآخرتين ولم تجهروا بها وهي أعظم ما به نقرأ وتقرأون وفيها من الروايات ما نروي وتروون، فإن قال: نحن لم نخفها وإنما أتبعنا الرواية في ترك الجهر بها في الآخرتين، وجهرنا بها وبغيرها في الاولتين قيل له أنت رويت وأصحابك ذلك، وغيركم فليست الرواية عنده فيها كذلك، وهذا أمر لم نجمع نحن وأنتم عليه بل نحن فيه على خلاف ذلك نقتدي به ونرويه، وأنت فلا تجد
---
ص 97 (29) المزمل 20. في نسخة ثم يقال له من بعد ذلك.
---(1/97)
[ 98 ]
لنفسك حجة تزيح بها ما تكره من قولنا وتنفيه، وتدفع بها فاحش ما ألزمناك في مخافتتك بها وترك الجهر بقراءتها فكيف تنسبه وقد استفظعته من قولك وكرهته من نفسك إلى نبيك صلى الله عليه وآله، أقم لنا بذلك حجة وتبيانا وأثبت لنا على قولك شاهدا وبرهانا فإن قال: حجتي أن الله يقول: لنبيه عليه السلام (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) (30) فجهرنا في بعض الصلوة وخافتنا في بعضها بالقراءة، قيل له إن معنى قول الله سبحانه ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا إنما هو في الاوقات والصلوات أنفسها، وفيما فرق الله به بين الساعات من الليل والنهار والاوقات والسبيل بين هذين الحالين فهو الاوسط من الامرين، لا ما ذهبت إليه من التفرقة بين ما جمع الله سبحانه من الركعات فأمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله أن يجهر فيما قرأ فيه من صلاة الليل والاسحار وأمره أن يخافت فيما قرأ فيه من جميع صلاة النهار لقوله وابتغ بين ذلك سبيلا، وقد يحتمل أن يكون معنا ذلك نهيا منه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله عن الجهر الشديد الفظيع الذي ينكره السامعون وعن المخافتة التي لا يستمعها المستمعون فأمره جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله أن يبتغي بين هاتين المنزلتين سبيلا وأن يقول في القراءة قولا وسطا وقيلا، والسبيل بين هاتين الحالتين فهو الوسط من الامرين، ولو كان كما ذكرت أنه أمره أن يجهر بالقراءة في الركعتين الاولتين وأن يخافت فيما سوى ذلك من الآخرتين للزمه أن يجهر في الاولتين من الظهر والعصر كما يجهر في الاولتين من المغرب والعشاء سواء سواء، لان الآية لم تبين ليلا من
---
ص 98 (30) الاسراء 110. في نسخة لم يتبين نهارا من ليل ولا ليلا من نهار.
---(1/98)
[ 99 ]
نهار، ولا نهارا من ليل، وإلا فما الفرق بين ذلك؟ وما حجتك في ترك الجهر نهارا إن كان ذلك كذلك فلا تجد بدا من الرجوع إلى ما به قلنا والاقرار لنا بما ذكرنا أو المقام على الباطل والمحال والتعلق بما لا حجة فيه من فاحش المقال فلما أن صح إجماعنا وإجماعكم وثبت مقالنا ومقالكم على أن الرسول صلى الله عليه وآله لم يسمع منه قراءة في الركعتين الآخرتين، وأنه خافت بما قال: من القول فيهما باجماع المسلمين علمنا أنه لم يقرأ فيهما قرآنا ولم يتل فيهما فرقانا وأنه لو كان قرأ شيئا من كتاب الرحمن لجهر به وأبانه غاية البيان لانه كله نور وهدى وضياء مستبين وشفاء وليس فيه شئ حقير يخفى، وانما جعل الله القرآن منفعة لكل انسان وأمر نبيه بتبيينه للعالمين، وإيقاره في آذان السامعين، وأمر العباد بالاستماع له والانصات، والاعتبار بما يستمعون فيه من البينات، والتصديق بما ينطق به نواطق الآيات، والقرآن فأعظم وأجل من أن يخافت ببعض قراءته أو يخفى على السامعين شئ من آياته فلما أسر رسول الله صلى الله عليه وآله قوله في الركعتين الآخرتين علمنا أنه قد ذكر الله فيهما بغير ما ذكره في الاولتين قبلهما، فذكره سبحانه في الاولتين بالقرآن فجهر، وذكره في الآخرتين بالتسبيح فستر ليفرق صلى الله عليه وآله وسلم بين التسبيح والقرآن تعظيما منه لما عظم الله من منزل الفرقان الذي جعله حجة، وهدى لكل انسان فكان إخفاؤه في الآخرتين لما يقول دليلا على أنه ذكر الله عزوجل بغير القرآن من القول وأنه سبح كما قال: من قال بالتسبيح، ألا ترى أن الصلوة كلها بنيت على اللفظ فيها بستة أصناف من القول والكلام لا يجوز غيرهن في القعود والقيام ولا ينطق فيها بسواهن، ولا يتكلم أبدا بغيرهن.
(فأولهن) الدعاء إلى الصلوة وهو الآذان وذلك قول الله سبحانه
---(1/99)
[ 100 ]
(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
(31) و (الثاني) الافتتاح وهو أن يقول المتوجه للصلوة: (32) الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن ولي من الذل، وذلك قول الله عزوجل لرسوله صلى الله عليه وآله (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل).
(33) و (الثالث) التكبير وهو تحريمها وذلك أمر الله لنبيه من بعد الافتتاح بالتكبير فقال: من بعد قوله ولم يكن له ولي من الذل (وكبره تكبيرا) (34) فأمره بالتكبير. و (الرابع) فهو القراءة فيها وذلك قوله عزوجل فأقرأوا ما تيسر من القرآن. و (الخامس) التسبيح وذلك قوله سبحانه (سبح اسم ربك الاعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى).
(35) و (السادس) تحليلها وهو التسليم وذلك قول الله سبحانه (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) (36) يريد بقوله قضيت فرغ من أداء (37) فرضها وحل بالتسليم ما كان حراما فيها من كلام المتكلمين وغيره من أفعال الفاعلين
---
ص 100 (31) الجمعة 9.
(32) في نسخة إلى الصلاة.
(33) الاسراء 111.
(34) المزمل 20.
(35) الاعلى 1.
(36) الجمعة 20.
(37) في نسخة: أدائها.
---(1/100)
[ 101 ]
فكان الآذان معلوما، والافتتاح فبين مفهوم، والتكبير فمسموع بين البرهان، والقراءة في صلوة الليل فمجهور فيها بأبين البيان، (38) وكان التسبيح مخافتا به على كل - الحالات في السجدات من الصلوة والركعات، والتسليم فظاهر مسموع غير مسر به ولا مكتوم، وحده عند الامة كلها معروف بذلك مفهوم، فلما أن عرفنا جميع ما يتكلم به للصلوة وفيها ويدعون الداعون إليها لم نجد شيئا مما يتكلم به لها وفيها يخافت به إلا التسبيح فقط والافتتاح، وقد قيل إنه لا يضيق على المفتتح أن يجهر بالافتتاح ووجدنا النداء يجهر به والتكبير والقراءة والتسليم ولم نجد التسبيح أبدا إلا مخافتا به، سنة فيه ماضية وعليه من الرسول صلى الله عليه وآله جارية ثم وجدنا الرسول صلى الله عليه وآله قد خافت في الركعتين الآخرتين فعلمنا، أنما روي لنا من التسبيح عنه فيهما حق من كلتا الجهتين: جهة الرواية عن الثقاة من آل الرسول وجهة ما تبين لنا في العقول لانه خافت فيهما بقوله ولا يخافت في الصلوة الا بالتسبيح كما يخافت به في الركوع والسجود فوجدنا التسبيح مخافتا به أبدا راكعا وساجدا ووجدناه صلى الله عليه وآله قد خافت في بعض الركعات فعلمنا أنه قد قال: فيهما ما يقول في الركوع والسجود مما يخافت به من التسبيح للواحد المعبود، فهذا إلى قوله سبحانه: (أقم الصلوة لذكرى) (39) يريد أقم الصلاة بذكرى وأفضل الذكر بعد القراءة ما اختاره من التسبيح الواحد الرحمن. وهو ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رحمة الله عليه أنه كان يسبح به في الآخرتين، وهو سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يقول ذلك ثلاث مرات فكل ذلك يصح لنا به
---
ص 101 (38) بيان.
(39) هود 114.
---(1/101)