قال: ولو أن ميتاً وجد في قوم ليس فيه أثر القتل فلا قسامة عليهم ولا دية، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه قال الشافعي فيه القسامة والدية ووجه ما ذهبنا غليه أن الميت إذا لم يكن به أثر القتل كان الأقرب والأغلب على الظن أنَّه مات حتف أنفه فلا وجه لإيجاب الدية والقسامة؛ ولأن القسامة على ما بينا تتعلق بحصول حال الظنة والتهمة وأقل ماله تحصل الظنة والتهمة أن يعلم أنَّه مقتول، فإذا لم يحصل العلم بأنه مقتول فكيف تتوجه الظنة على الذي وجد فيهم على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالقسامة في القتيل فما لم يعلم أنَّه قتيل فكيف يوجب بالقسامة وقد قال الشافعي: إذا أنكر الرجل كونه في جملة الذي وجد القتيل فيهم لميحكم عليه بالقسامة إلاَّ أن تقوم البينة على أه كان فيهم فكيف يوجب القسامة لميت لا أثر فيه، وهذا أقوى في انتفاء القتل عنه من انتفاء كون المدعى عليه فيهم، بل العلة في الجميع أن حال التهمة لم يحصل فلم يكن للقسامة وجه؛ لأن الرجل ما لم يعلم أنَّه قتل لا يحصل للقوم حال التهمة والظنة.
مسألة
قال: وإذا وجد القتيل بين الذميين كانت القسامة عليهم والدية على عواقلهم، فإن لم تكن لهم عواقل ففي صلب أموالهم؛ وذلك أن أصل القسامة كان في أهل خيبر وكانوا يهوداً فثبت وجوب القسامة على الذميين على أن حقوق الذميين لا تختلف فيها أحكام الملة وأهلالذمة، وهذا مما لا أعرف فيه خلافاً، وقلنا: إن لم يكن لهم عواقل فالدية في أموالهم لما بيناه فيما مضى من أن العاقلة تتحمل عنهم ما لزمهم، فإذا لم يكن لهم من العاقلة من يتحمل عنهم وجب أن يرجع عليهم.
قال: وإن وجد بين المسلمين والذميين كانت القسامة على المسلمين والذميين والدية على عواقل المسلمين والذميين؛ وذلك لما بيناه من أن حقوق الآدميين يستوي فيها أهل الملة وأهل الذمة وأن أحكامهم فيها لا تختلف.
مسألة(110/56)


قال: ولا قسامة في البهيمة إذا وجدت مقتولة وكل ما يلزم العاقلة فلا قسامة فيه؛ وذلك مملا لا أحفظ فيه خلافاً؛ لأن موضوع القسامة إنَّما هو لحرمة النفس وتعظيم دمها كالقصاص وضع لذلك، وكذكل تحمل العاقلة. والبهيمة وسائر الأموال ليست لها حرمة ولا لدمها تعظيم ولا لل4قصاص فيه مسرح ولا لتحمل العاقلة فوجب أن لا تكون فيه القسامة.
مسألة
قال: ولا يقتل أحدٌ بالقسامة على وجه من الوجوه، قال أبو حنيفة وأحد قولي الشافعي، وقال مالك يقتل به، وهو القول الثاني للشافعي، والدليل على صحة ما قلناه أن الذكي شكى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأمره أن يختار خمسين للتحليف، قال: فما لي من أخي غير هذا؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: <بلى ومائة من الإبل> فبين أن له الدية ولم يقل: وإن شئت القود، وكذلك علي عليه السلام أوجب فيه الدية دون القود وكذلك عمر، فبان أن القود غير واجب فيه على أن موضع القسامة إنَّما هو لحرمة النفس وتعظيم أمر الدم، فأولى أن يحتاط للمدعى عليه، فلا يراق دمه بغير بينة على أن القصاص شدد فيه الأمر ولم تجز فيه شهادة النساء ولا الشاهد، واليمين عند من أجازه ولا الشهادة لعى الشهادة، ودرئ في كثير من المواضع للشبهة، فكان الأولى أن لا يستوفي بالقسامة؛ لأن موضوعها على الظن وما يغلبه دون البينة، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يحل م امر مسلم إلاَّ في إحدى ثلاث> والقسامة لم تصح واحدة من ثلاث، ويدل على ذلك أنَّه بعث إلى اليهود على ما روي، فقال: <إما أن تدوا صاحبكم أو تأذنوا بحرب> فدل على أن الواجب هو الدية دون القود>.
مسألة
قال القاسم: ولا يمين على المدعي، وهذا مما مضى القول فيه في أول المسألة، فلا وجه لإعادته.
مسألة(110/57)


قال: ومن مات في ازدحام من الناس في مسجد أو طريق كانت ديته من بيت مال المسلمين، وهذا إذا تحقق أن الزحمة قتلته، ووجهه أن بعض المسلمين ليس بأولى بذلك الموضع ولا أخص من غيرهم، فوجب أن تكون ديته على جماعة المسلمين وما لزم جماعة المسلمين استوفي من بيت مالهم وفيه رواية عن أمير المومنين عليه السلام ولست أتذكر موضعه.
مسألة
قال: وإن وجد القتيل في محلة من مدينة كانت القسامة على أهل تلك المحلة، والدية على عواقلهم؛ وذلك أن القسامة موضوعة على الاختصاص، فمن اختص بموضع القتل كانت القسامة عليهم، يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يذرع بين القريتين حين وجد القتيل بينهما ثُمَّ ألقى على أقرب القريتين إليه، وكذلك فصل علي عيه السلام وعمر، وإذا ثبت ذلك ثبت أن القتيل إذا وجد في محلة من مدينة كان أهل المحلة ألى بالقسامة من سائر أهل المدينة لاختصاصهم الموضع الذي وجد فيه، وعلى هذا إن وجد في دار من محلة كانت القسامة على أهل الدار دون المحلة لاختصاصهم بموضع القتيل، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وعند الشافعي فيه القسامة، ومن أصحابه من قال: هو على قولين، ومنهم من قال: هو قول واحد.
فصل
عند أبي حنيفة في العبد إذا وجد قتيلاً القسامة، قال: أبو يوسف لا قسامة فيه، وشبهه بسائر الأموال، والأقرب على مذهب يحيى أن فيه القسامة؛ لأنَّه يجزئه في الجناية عليه مجرى الأحرار ووجهه ما تقدم في ذكر قيمته وفي أعضائه؛ ولأن القسامة موضوعها لحرمة النفس وبظيم الدم والعبد مشارك في هذا للحر.
فصل
إذا قال أهل المحلة: فلان قتله، قال أبو يوسف: يحلفون ما قتلنا وسقط عنهم ولا علمنا قاتلاً، قال محمد: يحلفون ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً غير فلان، والأولى ما قال محمد: لأنَّه يكون قد أتى باللفظ الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإستثناء يخرجه من أن يقع فيه الكذب.(110/58)


فإن قيل: فما معنى تحليفهم ولا عملنا قاتلاً ولا يسمع منهم إذا قالوا.
قيل له: إنَّما نطلب الفائدة لما نقوله نظراً واجتهاداً، فأما ما نقوله للنص الوارد فليس علينا طلب فائدته إلاَّ إذا أرادنا حملنا عليه غيره على أنَّه يمكن أن يقال: إن فائدته أنهم إذا نسبوه إلى واحد بعينه لم يمتنع أن يدعي عليه ولي الدم فتسقط القسامة والله أعلم.
باب القول فيما تضمن به النفس وغيرها وما لا تضمن
لو أن رجلاً رمى طائراً أو نحوه أو إنساناً أو قصد ضربه بالسيف فأصابه إنساناً آخر، فقتله ولزمته ديته ويحملها عنه عاقلته، وهذا ما لا أحفظ فيه خلافاً في أنَّه خطأ محض وأن الواجب فيه الدية وأن العاقلة تتحملها، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: الخطأ ما أراد القاتل غيره فأخطأ فقتله.
مسألة
قال: ولو أن رجلين تعلقا بطرفي حبل يتجاذبانه فانقطع الحبل وسقط الرجلان وماتا لزمت دية كل واحد منهم عاقلة صاحبه وليس للعاقلتين أن يتقاصا الديتين.
اعلم أن قوله: لزمت دية كل واحد منهما عاقلة صاحبه معناه هو ما لزم من دية لزم العاقلة؛ لأن الواجب لكل واحد منهما إنَّما هو نصف الدية ,إنما عبروا عن القدر الواجب من الدية بالدية،ووجهه أنهما ماتا من السقوط وكان السقوط سببه انقطاع الحبل والحبل انقطع لفعلهما جميعاً وهو الجذب، فصار كل واحد منهما ميتاً بجنايته على نفسه وجناية صاحبه عليه، فلزم كل واحد منهما لصاحبه نصف الدية أدلة الجناية والنصف الباقي هدر؛ لأنَّه فعل الجناية على نفسه، ألا ترى أن لو قتل نفسه لكان دمه هدراً، فكذلك إذا شارك غيره في تقل نفسه يجبأن تكون نصف ديته هدراً، وقلنا: ليس للعاقلتين أن يتقاصا؛ أن العاقلة قد تكون من لا يستحق الإرث غير من يلزمه العقل، فلم يجز أن يقاصا؛ لأن المقصاة تكون بين رجلين إذا كان ما يجب على كل واحد منهما حقاً لصاحبه دون من سواه.(110/59)


قال: فإن كان الحبل لأحدهما وجذبه الآخر من غير أن يكون له جذبه كانت دية صاحب الحبل على مجاذبة وبطلت دية المجاذب، وذلك أن صاحب الحبل تعلق بحبله، صار المجاذب له متعدياً في فعله فلزمه لصاحب الحبل نصف الدية للوجه الذي قلناه ولم يجب للمجاذب له دية؛ لأنَّه كان متعدياً في جذبالحبل وصاحب الحبل لو لم يمكنه أخذ حبله منه إلاَّ يجرحه وقتله لم يلزمه أرش ولا دية، فكذلك إذا مات بالجذب.
فإن قيل: فلم قلتم إن لصاحب الحبل نصف ديته والمجاذب له متعدٍ عليه.
قيل له: وإن كان متعدياً عليه فلم يستبد بسبب قتله بل شارك صاحب الحبل فيه فلم يلزمه إلاَّ نصف الدية، ألا ترى لو أن رجلاً عدى خلف سارق سرق متاعه ليستنقذه منه فسقط من عدوه ومات كات ديته هدراً؛ لان عدوه كان باختياره، وإن كان حقاً فكذلك جذب الحبل كان باختياره، وإن كان فيه محقاً فوجب أن تكون نصف ديته هدراً.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً كان باب داره إلى شارع من شوارع المسلمين، فرشه بذلفك الرش بعض المختارين فسقط ومات أو اندق بعض أعائه ضمن الراش دية ما لحقه ووجهه أنَّه متعدٍ في الرش؛ لأنَّه ليس له أن يحدث في طريق المسلمين ما يجوز أن يعنت فيه عانت وهو بمنزلة من وضع حجراً أو جذعاً في طريق من المسلمين فعثر به عاثر في أنَّه يلزمه ضمان ما لزم العاثر، وهذا مملا خلاف فيه؛ لأن الفاعل لذلك بمنزلة المانع لمن زلق أو عثر.
مسألة(110/60)

9 / 122
ع
En
A+
A-