قيل له: لا نعتبر أحوال الآحاد؛ لأن أصل القسامة لم توضع على ذلك وإنما تعتبر الحال الشاملة لهم، وإذا كانت الحال حال الظنة لزمتهم القسامة، وإذا لم تكن الحال حال الظنة وذلك مثل ما نقول في السفر أنَّه لما كان حال المعذر في الإفطار سوينا في باب الإفطار بين المسافر المضطر إلى الإفطار والمسافر الذي لا يضطر إليه ولم نعتبر أحوال الآحاد وإنما نعتبر الحال الشاملة لهم، فإذا كانت الحال حال الظنة أوجبناها وإذا لم تكن الحال حال الظنة أسقطناها ولم نعتبر أحوال الآحاد، يبين ذلك انه من البعيد أن يكون رجلٌ عرف يوم عرفة أنَّه كان بعرفات فتلزم القسامة والدية لقتيل وجد في محلته بطبرستان في ذلك اليوم، ويؤكد ذلك ما ثبت من أن القتيل إذا وجد بين القريتين أن القسامة تلزم أقربهما إلى موضع القتيل؛ لان الظنة فيهم أقوى، ويؤكد ذلك أن القسامة والدية تلزم أهل القرية وأهل الدور والمنازل دون القرية والدور والمنازل البعيدة، فإذا كان لبعد الدور والمنازل تأثير ي إسقاط القسامة فأولى أن يكون بعد أهلها أشد تأثيراً في ذل، وهذا أوضح، والخلاف في ذلك بيننا وبين أبي حنيفة في غالب ظني وأن قول الشافعي في هذا مثل قولنا.
مسألة(110/51)
وتجب القسامة على الأحرار والحاضرين لوقت القتل دون النساء والصبيان والعبيد وتجب القسامة على من كان من أهل القرية غريباً أو غريباً ساكن دار بشراء أو بكرءا، لا خلاف بيننا وبين أبو حنيفة أنَّه لا يدخل فيه النساء والصبيان والعبيد ووجهه أن النساء لسن من أهل القتل، وكذلك الصبيان والعبيد أيضاً الغالب من أحوالهم التصرف على أغراض مواليهم، وليس هم من أهل النصرة والقتال، ولهذا لا يجعل لهم سهمٌ في الغنيمة كما يكون للأحرار، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والولدان والعسفاء في دار الحرب، فأما الغيب فقد مضى الكلام فيهم وتجب القسامة على السكان والمشترين،وبه قال أبو يوسف، وقال أبو حنيفة: لا قسامة إلاَّ على أهل الخطة إلاَّ أن لا يبقى منهم أحد .... على المشترين ووجه ما ذهبنا إليه ما في حديث زياد بن أبي مريم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني وجدت أخي قتيلاً في بني فلان، فقال: <اجمع منهمخمسين رجلاً فيحلفون بالله ما قتلوا وما علموا قاتلاً> ولم يشترط في الذي يجمعون أن يكونوا ملاكاً أو أرباباً الخلط والمشتري والسكان والمستأجر وغيرهم، وكذلك ما روي أن قتيلاً وجد بين قريتين فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذرع بينهما فوجدت إحداهما أقر فألقاه على أقربهما ولم يخص من بينهم المُلاَّك بل عم المُلاَّك وغيرهم، فكذلك ما روي عن علي عليه السلام في قتيل وجد في محلة فقضى على أهل المحلة فعم ولم يخص، وهكذا فعل عمر فبان أن المعتبر بالسكنى والحضور دون التملك، وأيضاً لا خلاف أن داراً فيها ساكن مكبر لو تنازع متاعاً فيها هو ومالكها أن الساكن أولى بها وأن اليد يده، فكذلك إذا وجد قتيل فيها فيجب أن يكون الساكن أولى أن يجري عليه حكمه فبان أن كونه ساكناً أقوى في هذا الباب من كونه مالكاً، وأيضاً قد علمنا أن القسامة موضوعة على الظنة والنصرة وحال الظنة يحصل للساكن دون المالك،(110/52)
وكذلك الساكن أولى بالنصرة لأن التصرف له.
فإن قيل: قد علمنا أن الدار لو كانت في يد امرأة وزوجها كانت القسامة على الزوج وليس كذلك لو وجد فيها متاع فإنه يكون بينهما فبان أنَّه لا اعتبار بالسكنى.
قيل له: العلة ما قدرت بل العلة أنها ليست من أهل القسامة ألا ترى أنها لو كانت مالكة أيضاً لم تكن من أهل القسامة ونظير هذا أن يكون في الدار آلة لا تصلح إلاَّ للرجال فإنها تكون للرجل دونها لاختصاصه بها دونها فكذلك القسامة على أنا قد علمنا أن القسامة والدية لا يجريان مجرى الخراج الذي يلزم في الأرض فلا وجه للإعتبار الملك وإنما يلزمان بحصول الظنة ووجوب النصرة فيجب أن يتعلق الحكم بالسكان على أن أبا حنيفة يعتبر أن يكون من تلزمه من أرباب الخطة دون المشترين وهذا أبعد لأن كونه رب الخطة ........ له في هذا الباب ولا في شيء من الأحكام، ألا ترى أنَّه لا فرق بينه وبين المشتري في باب الشفعة ولا في الحقوق المتعلقة بالمنازل كالطرق والمياة وغيرهما فلما اشتركوا في سائر الحقوق اشتركوا في لزوم القسامة لهم على أن أبا حنيفة قد قال: إن قتيلاً لو وجد في سفينة كانت القسامة على أرباب السفينة، وإن كان فيها ركاب مع أربابها فعليهم جميعاً فوجب أن تكون الدور والمنازل هذه المثابة، والعلة حضورهم وهم في الوقت الذي وجد فيه القتيل وكذلك نقول في القتيل يحمل على دابة ومعها سائق وقائد وراكب أن القسامة عليهم جميعاً فلم يعتبر المُلاَّك فوجب أن تكون الدور والمنازل كذلك للعلة التي ذكرناها ولأن حال التهمة جمعتهم وذكر أبو الحسن الكرخي أن قول ابن أبي ليلى مثل قولنا، وقول أبي يوسف.
مسألة(110/53)
قال: وإذا وجد القتيل في قرية لا يتم فيها خمسون رجلاً كررت عليهم الأيمان حتى تتم خمسين يميناً فإن كانوا خمسة وعشرين استحلف كل واحد منهم يمينين، وإن كانوا ثلاثين استحلف كل رجل منهم يميناً واختار منهم عشرين فكرر عليهم كل رجل يميناً حتى تتم خمسين يميناً وبذلك قال أبو حنيفة وأصحابه، ووجهه أن خمسين يميناً قد صارت حقاً لأولياء الدم على ما مضى القول فيه فلهم أن يستوفوها من الذي استحقوها عليهم على ما يمكن، وإذا تقاصر عددهم عن الخمسين لم يمكن استيفاء خمسين يميناً إلاَّ بالتكرير، فلذلك قلنا إن كانوا خمسة وعشرين كرر على كل رجل يمنين وإن كانوا ثلاثين فالخيار لأولياء الدم في عشين رجلاً تكون عليهم الأيمان ليتم خمسين يميناً، قلنا لهم: الخيار؛ لأنَّه قد ثبت لهم الخيار في أصل اليمين لما بيناه فيما مضى من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <اختاروا منهم خمسين رجلاً> ولقوله لآخر: <اجمع منهم خمسين رجلاً> فجعل ذلك إليهم في الأصل، فكذلك في التكرير.
مسألة
قال: وإذا وجد القتيل بين قريتين ولم يعرف من أيهما قاتلة قيس بين القريتين ولزمت القسامة أقرب القريتين إلى المقتول، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وعمر على ما بيناه فيما تقدم على أنا قد بينا أن القسامة موضوعا على الظنة فأقرب القريتين إلى القتيل أقرب إلى حال الظنة، فكان أولى بالقسامة على أن كثير البعد كقليله، فكما أن القتيل لو كان على باب أحد القريتين، وكان بعيداً شديد البعد عن القرية الأخرى كانت القسامة على من وجد على باب قريتهم لعلة القرب، فكذلك ما ذكرناه.
مسألة(110/54)
وإذا وجد القتيل بين قوم فادعى أولياء القتيل قتله على رجل بعينه بطلت القسامة وكانت على أولياء القتيل البينة وعلى المدعى عليه إن أنكر اليمين، وذلك أن أصل القسامة إنَّما كان للالتباس؛ ولأن الدعوى من أولياء الدم لم تتوجه على واحد، فإذا توجهت على واحد بعينه صار ولي الدم مدعياً عليه، وهو منكر لدعواه، فوجب فيه ما يجب في سائر الحقوق ويكشف ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوجبها لادعاء أولياء على أقوام لا بأعيانهم، فيجب أن يجري فيها على ما شرعه صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك فعل علي عليه السلام وعمر.
قال: وإن ادعوا على قوم من أهل القرية لزمتهم القسامة وكان للإمام أن يحلف باقي أهل القرية، والدية على عواقل أهل تلك القرية؛ وذلك أن ادعاهم على أقوام منهم كادعائهم عليهم في أن الدعوى لم تتوجه على معين، فثبتت القسامة والدية، وكذلك سائر أهل القرية مشاركين لهم؛ لأن القتيل وجد بحيث كان حكم الجميعمع ذلك الموضع حكماً واحداً من غير اختصاص وعلى هذا وضع أمر القسامة؛ لأن القتيل وجد بين أظهرهم جميعاً.
مسألة
قال: ولو أن أولياء الدم أبروا الذي وجد فيهم القتيل وادعوا على غيرهم بطلت القسامة؛ لأن القسامة تجب لادعائهم، فإذا أبروا فلا قسامة، ومن ادعي عليه فعليه إن أنكر اليمين وعلى المدعي البينة على ما مضى القول فيه؛ ولأن الذي لم يوجد فيهم القتيل إذا ادعي عليهم لم يكن هناك حال الظنة والتهمة وبهما تتعلق القسامة مع ادعاء أولياء الدم، فإذا تجرد الأمر عن صاحبه ـ أعني الدم عن وجدان القتيل ـ بطلت القسامة.
مسألة(110/55)