قيل له: هذا يحتمل مغيبين أحدهما أن يكون أراد إلاَّ ي القسامة، فإنه يحلف فيها من لم يدع عليه بعينه، والثاني إلاَّ في القسامة فإنها لا مرى من الخصوم، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في قتيل قتل في محله لا يدرى من قتله، فقضى على أهل المحلة أن يقسم منهم خمسون رجلاً بالله ما قتلناه ولا علمنا قاتلاً ثُمَّ يغرمون الدية، وروى أبو الحسن الكرخي بإسناده عن الشعبي عن مسروق، قال: وجد بين قريتين فكتب فيه إلى عمر، فكتب أن قيسوا ما بين القريتين فأيهما كان أقرب فاستحلفوا منهم خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ثمأقسموا الدية، وروى أبو سعيد الخدري، قال: وجد قتيل بين قريتين، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذرع ما بينهما فوجدت إحداهما أقرب، فألقاه على قربهما قال يحيى بن الحسين، وروى نحوه إذا وجد بين قريتين عن علي عليه السلام، وفي بعض الأخبار أن عمر لما قضى بذلك قيل له: يا أمير المؤمنين تحلفنا وتغرمنا؟ قال: نعم. وفي بعضها قال: نعم فبم يبطل دم هذا، وما فعله عمر من ذلك كان مشهوراً بين الصحابة فلم ينكره منكرٌ فكان ذلك إجماعاً، وأما حديث سهل بن أبي خيثمة الذي اعتمده الشافعي في القسامة فهو مملا يا يجوز الاعماد عليه لما نذكره، وذلك لما روي أن قتيلاً وجد في بعض قلب اليهود بخيبر، فجاء أولياء الدم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وآسلم وهو حويصة ومحيصة، فذهب محيصة ليتكلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <كبر كبر> يريد السن فتكلم حويصة ثُمَّ محيصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <إما تدوا صاحبكم، وأما أن تأذنوا بحرب> فقالوا: ما قتلناه. فقال صلى الله عليه وآله وسلم لأولياء الدم: <أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم، وهذا لا دليل فيه، فقالوا: لا نحلف على ما لا نعلم، فقال: <تبرئكم اليهود بخمسين يميناً، فقالوا: إنهم ليسوا مسلمين فوداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عنده،(110/46)
فاستدلوا بهذا الخبر أن يبدأ بيمين المدعيين؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم، وهذا لا دليل فيه؛ لانه استفهام، والاستفهام بظاهره لا يفيد حكماً ولا أمراً بل يحتمل أن يكون للإنكار كما قال الله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِيْ خَلَقَ الأَرْضَ فِيْ يَوْمَيْنِ} وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى} وقوله: {أَإلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وظاهر الاستفهام هو طلب ما عند المستفهم عنه، وليس فيه مع كثرة وجوه مايحتمله أمرٌ ولا حكم، فكيف يصح الاستدلال بذلك على أولياء الدم يحلفون.
فإن قيل: روي: تحلفون وتستحقون دم صاحبكم بغير ألف الاستفهام.(110/47)
قيل له: ذلك لا يخلوا من أن يكون خبراً أو استفهاماً بغير ألف، فإنه يصح ولا يجوز أن يكون خبراً؛ لأنَّه لو كانخبراً كان كذباً؛ لا، القم لم يحلفوا ولم يستحوا دم صاحبهم فلم يبق إلاَّ أنَّه استفهام وقد مضى الكلام فيه، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم تبرئكم بخمسين يميناً ليس فيه ما يدل على أن اليهود يبرون بالأيمان؛ لأنظاهر قوله: تبرئكم اليهود خبر وقد ثبت أنَّه ليس بخبر؛ إذ لوكان خبراً لكان كذباً؛ لأن اليهود لم يفعلوا ذلك فلم يبق إلاَّ أن يكون فيه ضمير ويحتمل أن يكون استفهاماً كأنه أراد أن يعرف هل يرضون بأن يحلف لهم اليهود ويبروا فبان بما بيناه أن هذا الحديث لا يدل على أن المدعيين يحلفون ابتداءاً ولا على أنهم يستحقون بأيمانهم إن حلفوا شيئاً لا دية ولا دماً ولا أن اليهود يبون بأيمانهم كيف وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إما أن يدوا صاحبكم أو يأذنوا بحرب> فقد دل هذا اللفظ على أن الدية لازمة لهم وجملة ما في هذا الحديث ليس هو قول لأحد؛ لأن في آخره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وداه من عنده وليس أحد يقول إن ذلك حكماً لازماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجملة الأمر أن حديث سهل يشتمل على تخاليط لو تتبعناها لطال الكلام، وقد روي والله أعلم ما كان الشان لكن سهلاً وهم ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احلفوا على ما لا علم لكم به، وعن محمد بن إسحاق حدثنا عمرو بن شعيب وحلف بالله أن ما قال سهل باطلٌ، وهذا الحديث رواه سهل ابن خديج سليماً من هذه التخاليط، قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا ذلك فقال: لهم شاهدان يشهد أن على قاتل صاحبكم قالوا: يا رسول الله، لم يكن ثمة أحدة من المسلمين وإنما يهود قد يجترون على ما هو أعظم، قال: فاختاروا منهم خمسين رجلاص فاستحلفهم ووداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عنده، فكان(110/48)
هذا الحديث دالاً على فساد ما رواه سهل وأنه لا يجوز الاعتماد عليه ولسائر ما قدمنا من الروايات فيه أنَّه أوجب اليمين على الذين وجد القتيل فيهم وليس أنَّه أوجبها على المدعيين.
فإن قيل: فإنه أيضاً روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وداه من عنده فما تقولون.
قيل له:يجوز أن يكن فعل ذلك الضرب من الإصلاح، وقد روي أيضاً عن سهل بن أبي خيثمة، ورواه الطحاوي أن خبر القتيل لما أنهي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكروا عداوة اليهود لهم، قال: أفتبرؤكم اليهود خمسين يميناً أنهم لم يقتلوه، فقالوا: فكيف نرضى بأيمانهم وهم مشركون، قال: فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوا، قالوا: كيف نقسم على ما لم نر فوداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعلى هذا الحديث أنَّه بدأ بيمين اليهود وهو خلاف قول الشافعي وأهل المدينة، وروى الطحاوي بإسناده عن مالك بن أبي ليلى عن عبد الله بن سهل بن أبي خيثمة أنَّه أخبره رجلٌ من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل وحويصة ومحيصة ثُمَّ ساق الحديث فدل على أنَّه لم يكن مشاهداً للقصة يدل ذلك أيضاً على ضعف خبره، وقلنا: أخيار من يحلفون إلى أولياء الدم لما في حديث زياد بن أبي مريم، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن شكى إيه قتل أخيه: <إمع منهم خمسين> فجعل الجمع إليه، فدل ذلك على أن اختيارهم إليه، وفي حديث رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأولياء الدم:<أختاروا خمسين رجلاً> فاستحلفهم فجعل الاختيار إليهم؛ ولأن الأيمان حقهم على الذين وجدوا القتيل فيهم، فاختار الاستيفاء إيلهم وأوجبناها على العاقلة؛ لأن العمد لم يثبت عليهم وإنما لزمهم وثبتت عيهم الخطأ حكماً ولم يثبت على التحقيق منهم لا عمد ولا خطأ، فأقل أحواله أن يشبه بالخطأ وتتحمل عنهم ما لزمهم عواقلهم.
مسألة(110/49)
قال: وإن نكل بعض الخمسين عن اليمين حبس حتى يحلف أو يقر بجرمه، فإن أقر أخذ بجرمه، وإن حلف خلي عنه، وتكون الدية على عواقل تلك القبيلة أو القرية من حلف منهم ومن لم يحلف وحكى ذلك أبو الحسن الكرخي عن محمد، وذكره أبو جعفر الطحاوي حبس الناكل؛ إذ اليمين قد لزمتهم وصارت حقاً لأولياء الدم، فمتى تقاعدوا عن إيقائها وجب حبسهم كما يجب في سائر الحقوق وكما نقول فيمن ادعى حقاً على رجل فأنكره ونكل عن اليمين يحبس حتى يقر أو يحلف، فكذلك مسألتنا هذه، وقلنا إن أقر أخذ بجرمه؛ لأن الجناية تلزمه بإقراره ويحكم بها عليه كسائر إقراراته؛ ولأن القسامة وجبت لإلتباس الأمر في القتل، فإذا زال الالتباس بإقراره لزمته الجناية وسقط حكم القسامة وقلنا: تلزم الدية عواقل من حلف ومن لم يحلف؛ لأن الأخبار عليه دلت على ما مضى؛ ولأن من لم يحلف لم يحلف؛ لأن ولي الدم لم يحلفه واختار غيره عليه فلا يسقط عنه ما لزمه من الدية يشف ما قلناه أنهم لزمهم حقان: اليمين والدية فسقوط اليمين عن بعهضم لعدول أولياء الدم عنهم لا يوجب سقوط الحق الثاني وهي الدية.
مسألة
قال: ومن كان غائباً من أهل تلك الدور والمنازل في الوقت الذي وجد فيه القتيل فلا قسامة عليه ولا دية ووجه ما ذهبنا إليه أن القسامة لزمت والدية؛ لأن الحال حال الظنة والتهمة بدلالة أن من لا أثر به لا قسامة له ولا دية، وأن النساء والصبيان لا قسامة علهيم ولا دية؛ لأنهم ليسوا من أهل التقل والقتال.
قال: وإذا ثبت ذلك ثبت أن من عرف غيبته في الوقت الذي وجد القتيل فيه عن ذلك الموضع حصل اليقين بأنه لم يباشر القتل واليقين مطلٌ للظن المنافي له فلم يحصل له حال الظنة فوجب أن لا تلزمه القسامة ولا الدية.
فإن قيل: فعندكم أنَّه لوكان في جملة أقوام صالحين لا يتوجه عليهم التظنن أنهم في القسامة والدية كالفساق الذين يتوجه عليهم التظنن.(110/50)