قال: ولاتعقل لعاقلة شيئاً من البهائم والعروض، وهذا ما لا خلاف فيه، لأن العاقلة إنَّما تتحمل النفس فقط.
مسألة
قال: والعاقلة فهي العشيرة.
اعلم أن المراد بها أنهم هم العصبة فالأدنون الذين بلغوا إلى حد يحتمل الدية أجمع وذلك ما لا حفظ فيه خلافاً، ولأنه روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه جعل دية المرأة التي قتلتها الأخرى على عصبة القاتلة، ولأن عمر قال لعلي عليه السلام حين قال في المجهضة: إن كانوا قد غرفوا فقد غشوا، وإن كانوا لم يعفرفوا فقد جهلوا أقسمت عليه لتجعلنها على قومك يعني قريشاً، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالأرث لأهله، وقضى بالدية على العاقلة دون أهل الميراث وبه قال الشافعي: قال أبو حنيفة هم أهل الديوان واحتج بعمر أنَّه قضى بالعقل عليهم.
قيل له: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدية على العاقلة، ولا ديوان في عصره فعلم أنهم هم العصبة على ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وما روي عن عمر يجوز أن يكون المراد به دعلها على العصبة الذين جمعهم الديوان لكونهم عشيرة وعصبة لا بكونهم من أهل الديوان فيكون موافقاً لقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والعقل موضوع على النصرة، لهذا لا تدخل فيه المرأة ولا الصبي وقد علمنا أن التناصر كان في القبائل.
فإن قيل: فإن عمر جعل التناصر بين أهل كل ديوان.
قيل له: التناصر وجوبه عام بين المسلمين فلا يجوز لعمر أن يخصص به قوماً دون قوم فيون قد رفع الواجب عن بعض من أوجبه الله عليه لأن المسلمين يلزم جميعهم نصرة بعضهم لبعض والعقل لمن يوضع على هذا لأنَّه لو كان على هذا للزم العقل جميع المسلمين، وإنما وضع على نصرة القبائل التي كانت في الإسلام وقبل الإسلام فوجب صحة ما قلنا من أنهم هم العصبة والعسيرة يبين ذلك أن الذمي إذا كانت له عاقلة من أهل الذمة تحملوا عنه للتناصر الذي بينهم لا لتناصر الإسلام.
مسألة(110/41)
قال: ولا ينبغي أن تحمل الدية على على البطن الأدنى إلى الجاني إذا لم يحتملها بل يضم أقرب البطون إليه، كذلك إلى أن يكون الذي يلزم كل واحد منهم في كل سنة كثيراً كثيراً، وهذه الجملة لا خلاف فيها لأنَّها لو اقتصر بها على البطن الأدنى لثقل مايلزمهم فأجحفهم فوجب أن يضم إليهم سواهم أبداً إلى أن يكون ما يلزم كل واحد فيها شيئاً قليلاً، ويحيى عليه السلام لم يجد ما يلزم كل واحد منهم أكثر من قوله كثيراً كثيراً، والأقرب عندي والله أعلم أنَّه يجب أن يكون الذي يلزم كل واحد منهم في ثلاث سنين أقلمن عشرة دراهم ووجهه ما ثبت من وجوب القطع في عشرة دراهم، وما روي أن اليد لم تكن تقطع في التافه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وثبت أن ما دون العشرة تافه لامتناع وجوب تعلق القطع فلذلك قلنا: أن الواجب أن يكون ما يلزم كل واحد منهم دون عشرة دراهم وذلك يكون من تسعة إلى ثلاثة لأن ثلاثة أقل ما قيل فيه، والله أعلم.
مسألة
قال: ودية جناية الصبي على العاقلة ولا فصل بين عمده وخطأه وذلك لقوله: <رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم>. ولأن جنايتة وإن كانت عمداً فلا قصاص فيها فبان أنَّه خطأ حكماً وإن كان منه قصد كالمجنون فإذا كان كذلك وجب أن تكون العاقلة تحتمل خطأه وعمده جميعاً إذ العمد منه خطأ حكماً.
فصل(110/42)
والجاني لا يحمل من العقل شيئاً وكذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يحتمل كما يحتمله واحد من العاقلة. ووجه قولنا: أنَّه يحمل عنه تخفيفاً عليه، فلو حملناه أبطلنا ما إليه قصدنا ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قضى بالدية على العاقلة لم يقل والجاني يكون كأحدهم، وكذلك ما روي عن علي عليه السلام أن ديات الخطأ كلها على العاقلة لمن يشترط أن يكون الجاني كأحدهم، وعمر لما قال: أقسمت عليك لتجعلنها على قومك. لم يقل فأكون كأحدهم، وعلي لم يأمره بذلك فبان أنها تلزم العاقلة دون الجاني، وأيضاً قد ثبت أن العقل موضوع على النصرة فلو أدخلنا الجاني فيه جاز أن يكون الجاني امرأة أو صبياً وهما ليسا من أهل النصرة فنكون قد أدخلنا في العقل من ليس من أهل النصرة وهذا نقص موضوع العقل.
مسألة
قال: ولو أن حرة تزوجت عبداً فولدت غلاماً فجنى في حال رقِّ أبيه لزمت جنايته عاقلة أمه دون أبيه، وكذلك إن أعتق أبوه قبل إيفاء الدية إذا كانت الجناية في حال رقه وذلك أن نصرته على عاقلة أمه فلذلك ألزمناهم عقل جنايته في حال الضرورة وذلك إذا تزوج العبد مولاة لقوم فولدت ولداً ألا ترى أنَّه لا خلاف أن ولاه لمولى أمه ما دام أبوه عبداً بحال الضرورة وكذلك العقل.
مسألة(110/43)
قال: والصبي إذا لم تكن له عاقلة وكان له مال كانت دية جنايته في ماله، وإن لم يكن له مال كانت في بيت مال المسلمين، واختلف في ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي يجعلها في بيت مال المسليمن، ووجه: ما ذهبنا إليه أن الجناية إنَّما تلزم الجاني فاتبعنا الشرع، فإذا لم تكن له عاقلة كما بيناه ويكن ورد الشرع أنها تتحملها عاقلة الجاني على بعض الوجوه عن الجانيفاتبعنا الشرع، فإذا لم تكن له عاقلة عادت في ماله كما تقول زكاة الفطر تلزم المرأة كما تلزم الرجل، فإذا كان للمرأة زوج حملها عنها وإذا لم يكن لها زوج رجعت في مالها خاصة يؤكد ذلك أن ما لا تتحمله العاقلة من جناية العمد والصلح والإعتراف وما دون الموضحة تلزم الجاني في خاصة ماله والعاقلة لا تتحمل ولا تتحمل تعمداً وجب أن تكون في مال الجاني كما أنها إذا لم تتحمله حكماً كان في ماله لامتناع، تعلقه بالعاقلة وقد نص في المنتخب أن أهل الذمة إذا لم تكن لهم عواقل لزمتهم في خاصة أموالهم فعلى هذه الجملة إذا كان في عواقل الجاني، وقال الشافعي: يرجع إلى بيت مال المسلمين بناءً على قوله: إن من لا عاقلة له فدية جنايته في بيت المال كذا بنيناه على قولنا: أن دية جنايته ترجع إلىخاصة ماله. قلنا: فإن لم يكون له مال كان ما لزمه في بيت مال المسلمين لأن بيت مال المسلمين إنَّما هو لمصالحهم فيعان كما يعان الغارم والمكاتب، ومن تحمل حمالة أو لزمه خطب فدحه أو أمر كربه.
مسألة
قال: وجنايات الصبي كلها خطأ وديتها على عاقلته وهذا قد مضى الوجه فيه فلا طائل في إعادته. قال القاسم عليه السلام: وجنايات المجنون كلها خطأ وديتها على عاقلته وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً. ووجهه: ما قدمنا في جناية الصبي لأن حالهما واحدة.
مسألة(110/44)
قال: ولو أن مسلماً جنى وعشيرته ......... كون عقل عنه المسلمون دون عشيرته وهذا على ما بيناه إذا لم يكن له مال لزم المسلمين إعانته، وإن كانت بيت المال أعانه الإمام منه، وإن لم يكن أعانه المسلمون.
باب القول في القسامة
القسامة تجب في القتيل يوجد في القرية أو المدينة لا يدعي أولياؤه على رجل بعينه أنَّه قتل قتيلهم فإذا كان ذلك كذلك جمع من رجال تلك القرية أو المدينة خمسون رجلاً يختارهم أولياء القتيل فيقسمون بالله ما قتلناه ولا علمنا قاتله فإذا حلفوا كلهم خلي سبيلهم وكانت الدية على عواقل أهل تلك القرية أو القبيلة التي وجد فيها القتيل، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: الإيمان على المدعيين، فإن حلفوا استحقوا الدية، وقيل: أن له قولاً آخر أنهم يستحقون الدم وأظنه قول مالك، فإن أبوا ردت الأيمان على المدعى عليهم، والصل فيما ذهبنا إليه الحديث الذي ذكره يحيى بن الحسين في الأحكام وهو حديث زياد ابن أبي مريم، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني وجدت أخي قتيلاً في بني فلان، فقال: <اجمع منهم خمسين رجلاً فيحلفون بالله ما قتلوا ولا علموا قاتلاً> قال: يا رسول الله، مالي من أخي إلاَّ هذا؟ قال: بل لك مائة من الإبل> فدل هذا الحديث على أن الأيمان على الذي وجد القتل فيهم وعلى أنهم يغرمون الدية وهو نص ما ذهبنا إليه، وروي عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالقسامة على المدعى عليهم وعن عمر بن أبي خزاعة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالقسامة على المدعى علهيم، فدل ذلك على أن الأيمان على الذي وجد القتيل فيهم، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دالبينة على المدعي واليمين على المدعى عليه>.
فإن قيل: قد روي في الخبر إلاَّ في القسامة.(110/45)