قيل له: لا يجوز أن تدفع إليه الحقوق الواجبة الَّتِي تكون للفقراء، فأما ما كان تبرعاً وتطوعاً فإنه جائزٌ أن يدفع إليه، والوصية تبرع، فجاز أن تدفع إليه ولو كان أوصى للفقراء بزكاة كانت في ذمته أو نذر أو ما أشبه ذلك لم يجز أن يدفع منه إليه شيء؛ لأنَّه لم يصير إلى الفقراء يجعل الموصى لهم، وإنما جعله لله عز وجل لهم، فأما التبرع فحكمه خلاف ذلك الحكم، ألا ترى أن له أن يدفع إليه ما كان هو متبرعاً به ولا يجوز أن يدفع إليه ما كان واجباً عليه، فكذلك بعد موته، وقلنا: إنَّه أحق به؛ لأنَّه يكون فيه صلة الرحم مع أنَّه تصدق عليه فيجتمع فيه وجهان من الحسن.
مسألة
قال: وإن أوصى به لفقراء أهل بيته ولم يوجد فيهم فقيرٌ وجب أن يصرف إلى سائر الفقراء المسلمين، وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الوصية تبطل، ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه أوصى بثلثه أن يصرف في قربة مخصوصة، جعل لتلك القرية صفة زائدة، فمتى تعذرت تلك الصفة لم يجب أن تبطل الوصية كما أجمعوا عليه من أن من أوصى أن يحج عنه بثلث ماله من بلد بعينه فلم يمكن أن يحج عنه بثلث ماله من ذلك البلد لم تبطل الوصية، ووجب أن يحج عنه من حيث يمكن ذلك ما اختلفنا فيه؛ لأنَّه جعله في قربةٍ مخصوصة وهي التصدق في الفقراء، ثُمَّ جعلت للفقراء صفة زائدة، وهي أن يكونوا من أهل بيته، وإذا تعذرت ذلك لعدم الفقراء فيهم وجب صرفه في سائر الفقراء ولم يجب أن تبطل الوصية.
فإن قيل: فما تقولون فيمن أوصى لرجلٍ بعينة وهو ميتٌ أو مات قبل أن يموت الموصي، ألستم تقولون أن الوصية تبطل ولا يجب صرفها إلى غيره فما أنكرتم أن يكون ذلك سبيل ما اختلفنا فيه.(112/32)


قيل له: لأنَّه أوصى لإنسان بعينه وصية يجوز أن لا يكون موضوعها موضوع القرب، فلم يشبه ما ذهبنا غليه؛ ولأنها وصية لإنسان بعيننة يخاصم فيها ويقبلها إن شاء ويردها ولا تستقر إلاَّ بموت الموصي قبل موته، فأما إذا لم يكن ذلك بطلت الوصية، وليس كذلك ما ذهبنا غليه، ويشهد لما قلنا ما لا خلاف فيه من أن من أوصى لعدةٍ بوصايا مختلفة ولم يبلغها ثلثه، أن الحظ يلحق كلً منهم ولا يجب أن تبطل الوصية، وذهب كثير من العلماء إلى أن من أوصى أن يعتق عنه مملوكٌ بألف درهم، فلم يبلغ ثلثه ألفاً أنَّه يجب أن يعتق بمقدار ما أمكن.
مسألة(112/33)


قال: وإن أوصى لأقاربه صدرف إلى أقاربه من أبيه وأمه، وكان الذكر والأنثى فيه سواء، ووجهه أن اسم القرابة يلحق من كان له قربة من جهة الأم، فلما اشتركا في الاسم وجب أن يشتركا في الحكم المتعلق به، وفي العلما من يجعلها لقرابته من قبل أبيه منهم مالك، وحكى عن الليث والشافعي مثل قولنا، ووجب التسوية بين الذكر والأنثى كما يبناه في سهم ذي القربى أنَّه مالٌ اشتركا فيه الذكر والأنثى من غير تخصيص لأحدهما، فوجب أن يستويا فيه، واختلف العلماء في الوصية للقرابة، فذهب أبو حنيفة أنها لكل ذي رحمٍ محرم، وأظنه اعتبر أن يكون من قبل الأب ما وجدوا، وعن أبي يوسف أنه قال: هم بنوا أبٍ ينسبون إليه من الرجال والنساء إلى أقصى أبٍ كان في الإسلام، وعن الشافعي أنَّه ساوى بين قرابة الأب والأم والأقرب والأبعد سواء، وهو لن انتسب إلى أبٍ معروف عند العامة ومن العلماء من راعى الأب الرابع، والأظهر من قول يحيى على ما ذكره في باب قسمة خمس الغنيمة من الأحكام أن أقرباء الرجل الذين ينتسبون إلى الأب الثالث إلى آخر ما تناسلوا لقوله، وهذا السهم لقرابتهم، وإن بني المطلب في سهم ذوي القربى أنَّه لبني هاشمٍ لقرابتهم وأن بني المطلب أعطوا ما أعطوا على وجه الرضح للنصرة لا للقرابة، فيجب أن تكون القرابة عنده من الأب الثالث إلى آخر ما تناسلوا لقوله: وهذا السهم لا يزول ما يثبت القرابة والقرابة لا تزول أبداً، والأصل في هذا أن الله تعالى لما قال: ولذي القربى كان ذلك مصروفاً إلى بني هاشمٍ، وروي عن النبي صلى اله عليه وآله وسلم أنَّه لما نزل عليه قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتِكَ الأَقْرَبِيْنَ} دعى بني هاشمٍ وأنذرهم فثبت أنهم هم القرابة.
فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعط قرابته من قبل الأم، وعندهم أنهم قرابة.(112/34)


قيل له: لا يمتنع أن يكون ذلك السهم كان لخاصٍ من قرابته، وهذا يكون كالتخصيص من العموم، وهذا لا يمنع أن يكون من ذكرنا قرابة ثُمَّ نلحق بهم القرابة من قبل الأم لاشتراكهم في الاسم، وكذلك القول في الإنذار؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد كان أنذر جميع قريش، فدخل فهيم قرابته من قبل الأم، وإنَّما الغرض بهذا الاستدلال بيان أن بني هاشمٍ يلحقهم اسمُ القاربة ثُمَّ يحمل عليهم من سواهم، وإذا ثبت ذلك اشترك فيها الأبعد والأقب؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساوى بينهم في السهم، فإن كان أوصى لقرابته وهم لا يخصون ولم يشترط الفقر فعند أبي حنيفة وأصحابه أن الوصية باطلة، وحكى الطحاوي في الاختلاف عن مالك أنها جائزة؛ لأنَّه أجازها لقاربته مطلقاً ولم يشترط أن يكونوا ممن يخصون، فالظاهر أنها جائزة سواء خصوا أو لم يخصوا، ووجهه ما ثبت من أن سهم ذوي القربى لقومٍ لا يخصون ويشترك فيه فقراؤهم وأغنياؤهم، فثبت أن الحق يثبت لهم وإن كانوا لا يخصون، فوجب أن يثبت ذلك بالوصية؛ لأن الوصية تحتمل من الجهالة ما لا يحتمل غيرها؛ ولأنه لا خلاف أنها تصح إذا اشترط الفقر، فكذلك إذا لم يشترط، والعلة أنها وصية لأقوامٍ بأعيانهم، وكذلك لا خلاف أنها تصح للذين يخصون وإن اشتملت على الغني والفقير، فكذلك إذا لم يخصوا للعلة الَّتِي قدمناها.
فإن قيل: إنها إذا كانت للفقراء صارت حقاً لله فصحت، وإذا كانت للأغنياء لم تصح إلاَّ أن تكون حقاً لهم، فإذا مل يعرفالمستحق بعينه لم يثبت الحق.(112/35)


قيل له: إنها وإن كانت قربةٌ فهو حقٌ للفقراء بأعيانهم، ألا ترى أنَّه لا يدخل فيها سائر فقراء المسلمين، فإذا صح ذلك فإن كان لا يخصون لا يمتنع أن يصح للأغنياء وإن كانوا لا يخصون كما يصح للفقراء، ولم يؤثر فيها كونها قربة أو غير قربة على أنَّه يصح أن يتقرب إلى الله عز وجل بالوصية للأغنياء، فإن كثيراً من الناس يوصون للعلوية من غير اشتراط الفقر متقربين إلى الله عز وجل بالوصية وللعلماء وإن كانوا أغنياء ولا خلاف أن صلة ذي الرحم المحرم والوصية له قربة وإن كان غنياً، ولهذا لا يجوز أبو حنيفة الرجوع في الهبة له ويجريها مجرى الصدقة، فإذا ثبت ذلك ولم يفصل أحدٌ في الوصية لأغنياء لا يخصون بين أن يكون الموصي قصد القربة أو لم يقصد ثبت أنَّه لا تأثير للقربة في هذا الباب أو يقال: إذا ثبت صحتها مع القربة للأغنياء فلم يفصل أحدٌ بين أن تقع الوصية مع القربة أو غير القربة في هذا الباب، فوجب أني صح ما قلنا.
مسألة
قال: فإن أوصى به في وجه فصرفه الوصي إلى غير ذلك الوجه كان ضامناً، فهذا ما لا خلاف فيه؛ لأنَّه جعل له التصرف على وجهٍ خصوصٍ، فإذا عدل عن ذلك كان في حكم الغاصب فوجب أن يمضنه.
مسائل ليست من التجريد.
دل كلامه في الفنون في مسألة من أوصى بحجة وله امرأة لا وارث له سواها على أن من أوصى في جميع ماله ولا له وارث أن وصيته جائزة في جميع المال، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وعند الشافعي لا تجوز الوصية إلاَّ في الثلث، والباقي لبيت المال، ووجه ما قلناه ما دللنا في صدر كتاب الوصية على أن الوصية قصرت على الثلث لحق الورثة، فإذا كان القصر عليه لحق الورثة فمتى لم يكن وارثٌ لم يجب أن يقصر عليه نبين ذلك في قصر الوصية على الثلث أن الورثة لو أجازوها فيما جاوزوا الثلث جاز وأيضاً هو مال لا يتعلق به حق الوارث فأشبه الثلث في أن الوصية جائزةٌ فيه.
مسألة(112/36)

26 / 122
ع
En
A+
A-