اعلم أن حكم هذه المسألة وحكم الَّتِي تقدمتها مع الإجازة وغير الإجازة حكم واحدٌ لا خلاف فيه على ما بيناه، وإنما الخلاف في مقدار النصيب إذا أوصى بمقدار بمثل نصيب الابن، فذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي على أنّه إن أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابن واحدٌ أن المال بين الابن والموصى له نصفان؛ لأن هذا القول عندهم يقتضي التسوية، فإن كان له ابنان، وأوصى بمثل نصيب أحدهما كان له ثلث المال وعلى هذا كثر الأولاد أو قلوا، وهذا إذا أجازه الوارث، يعني في الابن الواحد، وقال مالك: إذا أوصى بمثل نصيب ابنه وليس له إلاَّ ابن واحدٌ فالمال كله للموصى له، ولا شيء للابن؛ لأن نصيب الابن هو جميع المال، فإذا أوصى بمثله كان ذلك وصية بجميع المال وإن كان له ابنان وأوصى بمثل نصيب أحدهما كان للموصى له نصف المال، ولكل واحدٌ منهما ربع المال، هذا أيضاً إذا أجازه الوارث أو الورثة، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً عن يحيى عليه السلام إلاَّ أن المتأخرين من أصحابنا كانوا يشيرون إلى مثل ما حكيناه عن أبي حنيفة والشافعي، وأظنه فيما عقلته عن أبي العباس الحسني، والمسألة عندي فيها نظرٌ، وكأن قول مالك في نفسي أقوى؛ وذلك أن قوله مثل نصيب ابني معناه مقدار نصيب ابني، فإذا كان نصيب الابن هو الجميع فمقدار الجميع هو الجميع.
فإن قيل: فإنه أراد السوية بين الموصى له وبين ابنه.
قيل له: ليس للتسوية لفظٌ فلا يصح ادعاؤها؛ لأنها إما أن تعقل من اللفظ واللغة لا يقتضيه أو يعلم ذلك من العرف والعادة، هذا مما لا يمكن أن يدعى فيه العرف والعادة؛ لأن هذه المسألة مما لا تكاد، فبدر لا يثبت لمثله عادة.
فإن قيل: هذا القول يؤدي إلى تقديم نصيب الابن على الوصية، ومن شأن الوصية أن تقدم على الارث.(112/27)


قيل له: إذا كانت الوصية مقدرة بنصيب الوارث فلا بد من تقديم تقديره، وإنما الممتنع هو تقديم استحقاقه لنصيبه، فأما تقدير النصيب أولاًفلا بد منه إذا كانت الوصيةمقدرة به على أن قول أبي حنيفة والشافعي في هذا لا يثبت إلاَّ أن يكون القول يتضمن إيجاب الوصية مقدرة بنصيب الابن بعد ثبوت الوصية، وليس لذلك لفظٌ، فوجب أن لا يكون إطلاقهموجباً وصية مقدرة بنصيب الابن مطلقاً على أن قولهم يؤدي إلى أن لا يمكن تقدير النصيب إلاَّ بتقدير الوصية، ولا يمكن تقدير الوصية إلاَّ بتقدير النصيب، وذلك مستحيل وكل ذلك يرجح ما كان يقوله مالك عندي، والله أعلم بالصواب.
فصل
كان أبو حنيفة يذهب إلى أن من أوصى لرجلٍ بنصيب الابن أن الوصية باطلة وخالفه أصحابنه، قال أبو حنيفة: نصيب الابن هو ما يستحقه الابن ويملكه، فإذا أوصى به فكأنه أوصى بمال الغير، ووجهه الخلاف عليه أنَّه إذا احتمل أن يكون أراد بذلك الوصية بما يملكه، واحتمل أن يكون أراد بذلك التقدير، وجب حمله على ما يصح دون ما يفسد؛ لأن صرف المسلمين محمول على الصحة ما أمكن، وليس لهم أن يقولوا: إنكم أبطلتم الوصية بالمجهول كأن يقول: أوصيت له بشيء من مالي؛ لأنَّه مع التصحيح يحتمل أموراً كثيرة ليس بعضها أولى من بعض ومسألتنا هذه ليست تحتمل إلاَّ فساداً ووجهاً واحداً في التصحيح، فكان التصحيح أولى، والله أعلم.
مسألة(112/28)


قال: وإذا كانت الوصية دون الثلث لم يحتج إلى المقاسمة، وأعطى كل ما أوصى له به، والمراد بالمقاسمة ها هنا هو المقاسمة على سبيل إدخال النقص على أرباب الوصايا، ولم ترد مقاسمة الشركاء في الوصية فيما بينهم؛ إذ هي مما لا بد منها، وكذلك مقاسمة الورثة، إذا كانت الوصية بجزْ من المال المعلوم؛ إذ لا بدٌ منها على ما نص عليه بعد هذه المسائل، وكل ذلك مما لا خلاف فيه، قال: وكذلك إن أوصى بثلثه أو سدسه ونصفه وأجازه الورثة أعطى كل ما أوصى له به، وكذلك إن أوصت المرأة لزوجها بصداقها ولآخر بثلث مالها كان القول فيه كالقول فيما مضى ولا خلاف أنَّه هذا كما مضى، والخلاف فيه الخلاف فيما مضى على ما بيناه، فلا جه لإعادته.
مسألة(112/29)


قال: وإذا أوصى الرجلُ بثلث ماله كله من ناص وعرض وعقار كان الموصى له شريكاً لورثته فيها يضرب معهم بثلث جميع ذلك، ويس للورثة في جميع أن يعطوه عوضاً عن شيءٍ من ذلك إلاَّ بمراضاته، ووجهه أنَّه صار شريكاً للورثة في جميع التركة لاستحقاقه بالوصية جزءاً من التركة معلوماً شائعاً فيها، فأشبه الوارث وإن كان استحقاق الوارث من جهة الإرث، واستحقاقه من جهة الوصية، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً، قال: وإن أوصى له بمالٍ معروفٍ لم يكن له شريكاً في سائر الأموال، ولزمهم أن يبيعوا منها ما يوفي الرجل ما أوصى له به، وهذا كما قال: لا يكون شريكاً للورثة إذ لم يوص له بجزءٍ معلوم شائع في التركة، وإنما أوصى له بشيء معين، وهذا يكون على ثلاثة أوجه أن يوصي له بشيء معين، كأن يوصي بعبدٍ أو دارٍ أو ثوبٍ بعينه فلا يستحق إلاَّ ما أوصى به، فإن تلف ذلك الشيء قبل الوصول إلى الموصى له بطلت الوصية، والوجه الثاني أن يوصي له بعبدٍ مطلقٍ أو ثوبٍ أو جارية غير معينٍ فله من ذلك ما يختاره الورثة إن كان في مال الميت دفع إليه وإن لم يكن في مال الميت اشترى له ودفع إليه، والوجه الثالث أنيوصي له بدراهم مرسله أو دنانير أو شيءٍ مما يكال أو يوزن، فعليهم أن يعطوهُ من ماله إن كان ذلك في مالهِ وإن لم يكن حصلوا وباعوا ما احتاجوا إليه من ماله ليوفوه ذلك، هذه الجملة مما لا خلاف فيها.
مسألة(112/30)


قال: ولو أن رجلاً أوصى بثلثِ ماله في أحسن وجوه البر، وجب صرفه إلى الجهاد؛ وذلك أن معنى الأحسن في هذا الموضع هو الأفضل، وقال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِيْ القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ غَيْرَ أُلِي الضَّرَرِ..} الآية، فبين أن المجاهدين أفضل من سائر المؤمنين، وليس يصح ذلك إلاَّ بأن يكون الجهاد أفضل القرب، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <الجهاد سنام الدين> وسنام الشيء ذروته وأعلاه، وذلك يوجب أنَّه أفضل سائر القرب، وذكر يحيى في المنتخب في وجه هذه المسألة أن الجهاد لما كان هو الأمر الذي به يمكن أن يقام به سائر الطاعات من الحج والصلاة واستند الزكاة والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر؛ إذ لو كفَّ الناس عن الجهاد لغلب أهل الشرك وأهل البغي وتختل هذه الطاعات، فدل ذلك على أن الجهاد أفضل القرب لافتقار جميعها إليه.
مسألة
قال: وإن أوصى في سبيل الله وجب أنيصرف إلى الجهاد وبناء المساجد وحفر القبور وعمل السقايات وما أشببه ذلك تخريجاً هذا مخرج من جملة جزء السبيل في قسمة الصدقات على هذه الأبواب، ووجهه أن سبيل الله هو ما تقرب به إلى الله عز وجل، وكان ذلك من الأبواب الَّتِي موضوعها موضوع القرب، فوجب صرفه إليها ولا يجوز صرفه إلى ما يقع التقرب به نذراً، كأن يهدي إلى الغني؛ لأن العرف يقتضي أن الموصي قصد بوصيته هذه ما يكون موضوعه موضوع القرب.
مسألة
قال: وإن أوصى به للفقراء وكان له أبٌ فقير جاز أن يدفع غليه لفقره، فكان أحق به؛ وذلك أنَّه أوصى لقومٌ لهم صفة وهي الفقر، وتلك الصفة حاصلة لأبيه، فجاز أن يوضع فيه بحصول الصفة له ولم يمنع منه كونه وارثاً؛ لأن الوصية للوارث عندنا صحيحة.
فإن قيل: أليس لا يجوز دفع الزكوات والكفارات إلى الأب فما أنكرتم أن لا يجوز دفع ما أوصى به للفقراء إليه.(112/31)

25 / 122
ع
En
A+
A-