وقد قيل أنَّه يحتمل أن يكونوا تقلدوا برضى جماعة من المسلمين فتكون ولايتهم من قبل المسلمين لا من قبل الظلمة ويكون الظلمة لهم في حكم المعينين والأعضاء، وظاهر الحال بخلاف ذلك؛ لأنَّه لم يرو عن أحدٍ منهم أنَّه فعل ذلك بتحصيل رضى المسلمين وبأمرهم، وكان الظاهر أنهم تصرفوا بتولية الظلمة لهم، والأمر المحتمل لا يعترض به على الأمر الظاهر، كيف ولم يرو عن أحدٍ من المسلمين الذين كفوا عن النكير عليهم أنهم استبحثوا عن أحوالهم في رضى المسلمين بهم؛ ولأن الكف عن النكير عليهم كان بعد ذلك فلم يجب صرف الأمر إلى ذلك الوجه.
على أني لا أمتنع أن يكون في رضى المسلمين ممن يتولى من جهة الظلمة ضرباً من الاحتياط، وأنه هو الأولى، والذي اختاره ليكون أبعد من الخلاف وأقرب إلى الوفاق في عدد الجماعة من المسلمين الذي يرضون به ويولونه أن يكونوا خمسة، فقد نص في الأحكام في أن أقل من يحضر حد الزنا خمسة، الإمام والشهود الأربعة، وأحدهم يجلد وتأول على ذلك قول الله عز وجل: {وِلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ}، وإليه ذهب أبو علي الجبالي في عدد الذي يعقدون الإمامة وهو أكثر ما قيل فيه، وكان أبو علي يعتمد لذلك بيعة أبي بكر؛ لأنها وقعت يوم وقعت من خمسة ويعتمد أيضاً حكم أمر الشورى، وإذا اختلف الناس في العدد فمن قائل أنها تنعقد بواحدٍ وآخر، قال أنها تنعقد باثنين، وكان الخمسة أكثر ما قيل كان ذلك مجمعاً عليه، فوجب أن يكون هو الصَّحيح؛ إذ مجمع عليه وما دونه لا دليل عليه.
مسألة(112/22)
قال: وإذا خرج رجلان في السفر فمات أحدهما، ولم يكن أوصى إلى الآخر جاز له أن يكفنه تكفيناً وسطاً، فإن أشرف في التكفين ضمن الزائد على الوسط، ووجهه أنَّه يحصل له ضربٌ من الولاية فيتلك الحال، ألا ترى أنَّه يتعين عليه فرض دفنه وتكفينه، فأشبه الوصي؛ لأن فرص الدفن والتكفين متعينٌ عليه؛ ولأن الدفن إذا وجب عليه فرضه لم يلزمه ذلك من ماله، فإذا لم يلزمه ذلك في ماله ثبت أنَّه يلزمه في مال الميت، وإنما قال الوسط؛ لأنَّه الأصل في جميع ما جرى هذا المجرى، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: <خير الأمور أوسطها>، وقال في مهر المثل: <وسط لا شطط فيه ولا وكس> فصار الوسط أصلاً في مثل هذه المواضع؛ ولأن ما زاد سرف وما نقص منه تقصير، فإذا ثبت ذلك فيما زاده على الوسط يكون إضاعة فيجب أن يضمنه؛ لأنَّه يكون مضيعاً بذلك القدر على الورثة، قال: ومقدار ما يجوز له التكفين أن يكون سببها بنصف العشر أو نحوه، وليس ذلك حداً محدوداً لا تجوز مجاوزته ولا القصور عنه، بل الواجب فيه بحسب الحال والزمان والغلاء والرخص، وبحسب المال في القلة والكثرة، وبحسب الاجتهاد، وإنما قال يحيى بن الحسين؛ لأنَّه عمن كان معه مائة دينار فمات، فقال: يكفن بنحو نصف العشر؛ وذلك يكون خمسة دنانير، ولعله رأى أن ذلك القدر هو الواجب بحسب ما عرف من حال أجرة الحافر وكم يوارى به، ويحيط في ذلك الزمان وذلك المكان، وليس يجب أن يحمل على ذلك لو ترك عشةر آلاف دينار ولا أن يحمل عليه لو ترك مائة درهم، فإن صاحب العشرة لا يبلغ تكفينه خمسمائة وصاحب المائة درهم لا يقتصر به على خمسة دراهم.
مسألة(112/23)
قال: وكل ما يفصل الحي عن الميت من وجوه البر نحو الحج والصدقة والعتق فهو للحي دون الميت إلاَّ أن يكون الميت أوصى به واختلف العلماء في ذلك، وكل التكفين، واختلفوا فيما عدى ذلك، فقال أبو حنيفة: جميع ما يلزمه في الحد والزكاة وغيرهما مما ليس له مطالب بعينه يكون من الثلث ويجب بالوصية والأظهر عن الشافعي أنَّه قال في الحج والزكاة: أنهما من جميع المال، وأصحابنا فصلوا بين الحج والزكاة فجعلوا الحج من الثلث، وأوجبوه بالوصية، نص يحيى في الفنون وهو الظاهر في كلامه في الأحكام، وذكر أصحابنا أن الزكاة من جميع المال وشبهها بالدين، ذكر ذلك أبو العباس الحسني في النصوص، وهو الأظهر من كلام يحيى عليه السلام؛ لأنَّه ربما شبهها بالدين، وفي بعض المسائل زاد قوتها على قوة الدين؛ حيث يقول: إن الزكاة تمنع الزكاة، والدين لا يمنعها، فيجعل قدر الزكاة في حكم الخارج من ملكه، وما ذهبنا إليه من الفرق بين الحد والزكاة به قال أبو علي الجبالي في كتاب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وجملة الفصل بينهما أن الحج يلزم البدن والمال يدخل فيه على سبيل البيع والزكاة تجب في المال كالدين، وعندنا أنها تجب في مال اليتيم والمجنون كالدين، وكثيراً مما يجب في هذا الباب قد ذكرناه في كتاب الحج من شرح التجريد وبينا لما نذهب إليه من أن الحد يجب من الثلث، ودللنا على أنَّه لا يجب إلاَّ بالوصية، وأوضحنا الكلام فيه وفي أن ما يفعله الحي عن الميت من غير أن يكون الميت أوصى به يكون للحي، وأنه إن كان أوصى فهو له فلا طائل في إعادته.
فصل
دل كلام يحيى ومسائل على أن للوصي أن يوصي وأنه يالف الوكيل في هذا؛ لأنَّه بنى كلام في باب الوصي على أن تصرفه تصرف الولاة، فقد مضى الكلام في هذا.
باب القول في أحكام الوصايا(112/24)
لو أن رجلاً أوصى لرجلٍ بثلث ماله والآخر بنصفه وامتنع الورثة من إجازته، ان الثلث بينهما على خمسة أسهم، لصاحب النصف ثلاثة أسهم، ولصاحب الثلث سهمان، وبه قال أبو حنيفة: الثلث بينهما نصفان على سواءٍ، قال: لأن الموصى له بالنصف لا يضرب في الثلث بما سمي له مما زاد على الثلث: كأنما أوصى له بالثلث فقط، فيستوي ..... والموصى له بالثلث، فأما إن أوصى لعدة من الناس لبعضهم بالثلث ولآخر بالسدس ولاآخذ بالثمن بعد إلاَّ أن يكون سمى لأحدٍ منهم ما زاد على الثلث، فلا خلاف أن الجميع يتضاربون في الثلث على قدر أنصبائهم من الوصية، ووجه ما ذهبنا غليه أنَّه لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة في الوصية بالدراهم مرسلة أنها وإن زاد نصيب بعضهم على الثلث أنهم جميعاً يتضاربون في الثلث، فوجب أن يكون ذلك حكم الوصية المعينة، لعلة أنَّه ضربٌ بالحصص الموصى لهم بها، ويمكن أن تجعل الوصية لكل واحدٍ منهم بالثلث فما دونه أيضاً أصلاً ونقيس عليه بالعلة الَّتِي ذكرناها، ويمكن أن يقال: إن العلة في ذلك أن الموصي لم يرض إلاَّ أن يكون بين الذي يصيب كل واحدٍ منهم التفاوت الذي ذكره.
فإن قيل: الفصل بين الأصل والفرع الذي ذكرتم أن في أحد الأصلين وهي الدراهم المرسلة يجوز أن يبلغ المال مبلغاً يخرج الوصية تامة من الثلث، ولي كذلك الوصية بجزء من المال معين.
قيل له: نحن بينا المسألة على رجلٍ مات ولم يخلف إلاَّ ثلثمائة درهم، وأوصى لرجلٍ بمائة وخمسين درهماً ولآخر بمائة درهم، فكيف يبلغ المال المبلغ الذي ذكرتم على أن هذا الفصل وإن كان صحيحاً فلا يمتنع من الجمع بينهما بالعلة الَّتِي ذكرنا.
فإن قيل: في الأصل الثاني أن الوصية للجمع ثابتة؛ لأنَّه لم يتجاوز بواحدة منهما الثلث، فصح أن يتضاربوا في الثلث، وليس كذلكحال الموصى له بما زاد على الثلث؛ لأن الوصية به غير صحيحة؛ لأنها وصية بمال الوارث.(112/25)
قيل له: كيف يكون ذلك وعندكم أن الورثة إن أجازوه ملكه الموصى له دون الورثة على أن الوصية لكل واحدٍ منهم عن المسمى له، ومع هذا تضاربوا في الثلث، فكذلك ما اختلفنا فيه، ويمكن أن يجعل القول أصلاً لهذا الباب بأن يقال: لما لم يمكن اتصال الجميع إلى المسمى له في الإرث وجب أن يضرب الجميع في المال على قدر ما يسمى لكل واحدٍ منهم، فكذلك الوصية، ويكشف ذلك كله بأن يقال: إن الوصية تضمن أمرين: أحدهما أن يزاد الموصى له على الثلث، والثاني أن يحصل بين الذي أوصى لهم فيما يصبيهم التفاوت المعين، فلما منع الشرع أن يزادوا على الثلث إذا امتنع منه الورثة منعناه واتبعنا فيه قول الله عز وجل: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْه}، ولما لم يمنع الشرع من التفاوت في القسمة بينهم أمضينا الوصية بالتفاوت على ما أوصى بها، واتبعنا قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ..} الآية.
مسألة
قال: وكذلك إن كان له ابنان فأوصى لرجلٍ بثلث وللآخر بمثل نصيب أحدهما ولآخر بنصف ماله أو ثلثه أو بمثل نصيب أحدهم وزيادة شيء أو بمثل نصيب أحدهم إلاَّ شيئاً كان العمل فيه على ما بيناه من المقاسمة على مقدار الوصية، وكلما أتى من هذا الباب فهو قياس عليه.(112/26)