ولو أن رجلاً أوصى إلى رجل بوصية فقبلها ثُمَّ أراد الخروج منها في حياة الموصي جاز له ذلك وإن قبلها الوي في حياته وأراد الخروج منها بعد وفاته لم يكن له ذلك، وكذلك إن أوصى إلى غائب فله أن لا يقبلها حين يبلغه، فإن قبلها حين تبلغه وأراد الخروج بعد ذلك لم يكن له، وتحصيل هذه الجملة أن الوصي إذا قبل الوصية فليس له الخروج منها إلاَّ في وجه الموصي لهذا، قال إن الغائب لم يجز خروجه منها إلاَّ في وجه، ولهذا قال أن الموصي إذا مات لم يجز خروج الموصي من الوصية؛ لأنَّه لا يجوز خروجه منها إلاَّ في وجهه، ولهذا قال إن الموصى به قال أبو حنيفة وأصحاب، وذهب الشافعي إلى أنَّه يجوز خروجه منها متى شاء على جميع الأحوال في حال الحياة للموصي وبعد موته، وفي وجهه ومع غيبته، فأما ما يدلعلى أنَّه لا يجوزخروجه منها بعد وفاته فهو أنَّه يتصرف فيها بحكم الولاية فأشبه الأب والجد في أنَّه لا يصح منهما إخراج أنفسهما من الولاية، ويدل على ذلك المتكفل بالبدن والضامن للمال؛ لأن واحداً منهما لا يصح له الانفراد بإخراج نفسه مما دخل فيه، والعلة أنَّه لزمه حق للغير بدخوله فيه، فلا يجوز له التفرد بإخراج نفسه منه، ألا ترى أنَّه لزمه حق الميت وحق الصغار من ولده، فوجب ان لا يصح خروجه مع الغيبة منها لهذه العلة وليس يصح الاعتراض على ذلك بالوكيل؛ لأن الوكيل لا يصح خروجه من الوكالة عندنا إلاَّ بمحضرٍ من الموكل، فالوكيل والوصي في هذا سواء، وثبت ما ذكرنا أولاً من أنَّه لما ان متصرفاً بالولاية ولم يكن هناك من يولى من جهته أنَّه لا سبيل له إلاَّ أن يعزل نفسه وحاله في ذلك حال الإمام أنَّه لما اكن تصرفه بالولاية لم يصح منه أن يعزل نفسه، فأما خلفاؤه فيجوزأن يلحقوا به في هذا الحكم ويجوز أن يفرق بينه وبينهم بأن يقال إن للخلفاء أن يولوا من جهته وهو الإمام فيجب أن يصح منهم عزل أنفسهم في وجهه كالإمام والأب والجد.
مسألة(112/17)
قال: ولو أن رجلاً أوصى إلى رجلين أو ثلاثة رجال غيب، فلما بلغتهم الوصية قبلها الواحد وأباها الباقون كان القابل منهم وصياً في جميع المال ووجهه ما بيناه أنَّه يتصرف بحكم الولاية فأيهم ثبت له الولاية صح أن يتصرف في جميع المال كالمرأة يكون لها إخوان غير بالغين فأيهما بلغ كان له أن يتصرف في إنكاحها بحكم الولاية.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أوصى إلى رجلين بأولادٍ له صغار وكان له وعليه دينٌ وعنده ودائعٌ فلا بأس لأحد الوصيين أن يقوم بذلك كله دون الآخر إذا حضر هو وغاب الآخر، وكلما فعله من ذلك فهو جائزٌ ما لم يتعمد الحق، وبه قال أبو يوسف، وقال أبو حنيفة ومحمد والشافعي: ليس ذلك لأحدهما دون صاحبه، قال أبو حنيفة: ليس لأحدهما أن يشتري شئاً إلاَّ الكسوة والطعام للورثة إذا كانوا صغاراً، وقال أبو حنيفة لأحد الوصيين أن يبتاع الكفن للميت، وعن محمد أنَّه قال: ليس له ذلك إلاَّ في ستة أشياء: في شراء الكفن للميت وقضاء ديونه وإنفاذ وصيته فيما أوصى به من صدقة أو نحوها أو شيء ان لرجلٍ بعينه وفي الخصومة للميت في ماله من الحقوق قبل الناس وشراء الطعام والكسوة لصغار الورثة، والأصل في هذا أنَّه يتصرف بحكم الولاية فيجب أن يجوز تصرف أحدهما دون صاحبه كالمرأة إذا كان لها وليان أو أولياء عدة وكالقاضي يستخلف على البلد خليفتين أو ثلاثة، ألا ترى أنَّه لا خلاف أن يجوز لكل واحدٍ منهم أن يتصرف دون صاحبه لما كان تصرفه بحكم الولاية، فكذلك الوصيان والأوصياء، فإن ألزموا عليه الوكيلين في أنَّه لا يصح تصرف أحدهما دون صاحبه لم يلزم ذلك أن الوصي متصرف تصرف الولاة، ألا ترى أنَّه يتصرف مع انقطاع أمر الموصي وليس كذلك الوكيل؛ لأنَّه يتصرف بأمر الموكل وتبطل ولايته بموت الموكل لانقطاع أمره وأيضاً لا خلاف أن الوصي يتصرف على الصغير في وجوه التصرف الَّتِي لم ينص له عليها كالبحارات وما أشبهها أو كاستيفاء حقوقه وإيفاء ما يلزمه من الحقوق(112/18)
وغير ذلك، ففكان تصرفه بتصرف الولاة أشبه منه بتصرف الوكلاء، ألا ترى أن الوكيل لا يتصرف إلاَّ فيما ينص عليه له أو كان في حكم المنصوص فوجب أن يفارق حكم الوصي حكم الوكيل على أن من مذهب أبي حنيفة أن للوصي أن يوصي وليس للوكيل أن يوكل وعلته في الفرق بينهما أن تصرف الوصي تصرف الولاية وليس كذلك الوكيل، فكذلك ما اختلفنا فيه.
فإن قيل: إن الميت لم يرض برأي واحدٍ فلا يجوز تصرفه.
قيل له: هذا منتقض بشراء الطعام والكسوة للصغير وشراء الكفن للميت وسائر ما أجازوا تصرفه على أنا لسنا نسلم ذلك ونقول أن الميت رضي برأي كل واحدٍ منهما أولياء يصنع الأمر إن غاب أحدهما كما يقول ذلك في القاضي إن استخلف في البلد خليفتين.
فإن قيل: في شراء الطعام والكسوة للصغير وشراء الكفن للميت أنَّه ضرورة فلم يجز فيه الانتظار لأحدهما دون صاحبه.(112/19)
قيل له: هذا لا يعصم من النقض على أنا نقول لهم أن أحد الوصيين إذا انفرد صار عندكم في حكم من ليس بوصي من الأجانب في أن تصرفه لا يصح، وإذا كان كذلك وجب أن يستوي فيه حال ما تدعوا الضرورة إليه وما لا تدعوا مما ذكرتم، ألا ترى أن الأجنبي يستوي حاله في ذلك على أن الخصومة عن الميت مما لا ضرورة في تأخيرها، وقد أجازوها لأحدهما، وهذا نقض ظاهر، وحكى ابن أبي هريرة أن الميت لو أوصى إلى كل واحدٍ منهما بانفراده فمات أحدهما كان للآخر أن يقوم به فيلزم على هذا إذا قال قد أوصيت إليكما إن يصح انفراد كل واحدٍ منهما؛ لأن كل واحدة من اللفظتين يقتضي الوصية إلى كل واحدٍ منهما، وذكر الانفراد هو ضرب من التأكيد إن أوصى إليهما في لفظة واحدة واشترط الإنفراد، وإن كان الإيصاء إلى كل واحدٍ على الإنفراد فلا فصل بين ذلك وبين الإيصاء إليهما معاً؛ لأنَّه لا فرق بين ذلك، ألا ترى أنَّه لا فرق بين أن يقول لزيدٍ علي درهمٌ ولعمرو علي درهمٌ وبين أن يقول لزيد وعمرو علي درهمان وكذلك لا فصل بين أن يقول: بعتك هذا العبدين، ولهذا نظائرٌ كثيرة.
مسألة
قال: ولهما أن يبيعا ما كان للميت لإنفاذ وصيته، فإن كان للميت ورثة كبار لم يكن لهم بيع العقار والضياع من مال الميت إلاَّ مأمرهم، ومعناه أن العقار والضياع مما يتعلق بهما من الأعراض ما لا يتعلق بسواهما، فمتى بذل الورثة ما يكون فيه وفاء بالوصية كانوا أولى بتركة الميت ولم يكن للوصي أن يقتات عليهم في ذلك، وهذا مملا لا أحفظ فيه خلافاً، فأما إذا لم يبذل الورثة ذلك فللوصي بيع ما يمكن به إنفاذ الوصية وصية الميت رضي الورثة أم أبوا لا خلاف في ذلك.
مسألة(112/20)
قال: وليس للوصي بيع شيء من أموال الأيتام إلاَّ لضرورة وتجرٍّ لمنفعتهم وحسن النظر لهم، وإن باع لا على هذا الوجه كان للأيتام إذا بلغوا نقض البيع ووجهه أنَّه لا ولاية للوصي على اليتيم إلاَّ فيما يؤدي إلى الصلاح والغبطة لهم، فأما ما يؤدي إلى خلاف ذلك فلا ولاية للوصي فيه عليه، ألا ترى أنَّه لا خلاف أنَّه لو باع ماله بوكس لا يتغابن بمثله كان ذلك مفسوخ، أو كذلك لو أجر غفارة بوكسٍ لا يتغابن الناس بمثله وجب فسخه، وكذلك لو أنفق عليه من ماله ما زاد على قدرِ حاجته على وجهٍ يؤدي إلى الإضاعة كان ضامناً فبان به صحة ما قلناه من أن ولايته عليه إنَّما هي فيما يؤدي إلى صلاحه وغبطته، فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ما ذكرناه في بيع أموالهم على ما قلناه من أنَّه متى لم يتجر به نفعه وحسن النظر له وجب فسخه ونقضه.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً مات وخلف أولاداً صغاراً وكباراً ولم يوصِ فجعل بعض السلاطين الظلمة أمر الصغار إلى بعض الكبار، وجعله وصياً عليهم جاز ذلك، هذا مبني على أن الولاية تصح بتولية الظلمة إذا كان المولى ممن يصح للولاية.
وبه قال أكثر العلماء، وقد نبه يحيى بن الحسين على ذلك بما ذكر أيضاً في الأحكام من قوله: يقر من أحكامهم ما وافق الحق وإلى نحو ذلك أشار أ؛مد بن عيسى فيما حكاه عنه محمد بن منصور في جامعه.
ووجهه ما صح من عدة من الصالحين الفضلاء أنهم تقلدوا القضاء من جهة الظلمة في أيام بني أمية وبني العباس ولم ينكر ذلك عليهم غيرهم من أهل الفضل والصلاح من انتشار ذلك وظهوره، فصار ذلك إجماعاً.(112/21)