قيل له: ليس ذلك وصية بالمجهول؛ لأنَّه يمكنه أن يعلم في الثاني، ألا ترى أنا نجوز مثله في البيع برأس المال، وإن لم يكن ذلك معلوماً في الحال؛ لأنَّه مما يصح أن يعلم في الثاني، ولا خلاف أنَّه لا يجوز البيع بشيء غير مسمىً على أن الوصية تمليك كالهبة والبيع فوجب أن لا يصح بالمجهول قياساً على البيع والهبة.
مسألة
قال: وكل من أوصى بوصية فله أن ينقضها ويثبتها ويزيد فيها وينقص، وذلك مما لا أحفظ فيه خلافاً؛ لأن الوصية موقوفة إلى أن يقبلها الموصي له بعد موت الموصي فحينئذٍ تستقر، فأما ما دام الموصي حياً فهي موقوفة والتمليك الموقوف يجوز فسخه كالبيع والنكاح وغيرهما فكانت الوصية بذلك أولى، وأما تثبيتها فليس هو إلاَّ الاستمرارعليها والزيادة فيها كوصية مستأنفة، فوجب أن تكون صحيحة، والنقصان فهو رجوع في بعضها وفسخ له فوجب أن يصح ذلك كما صح في الكل.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أوصى بوصية في صحته أو مرضه ثُمَّ أوصى بعد ذلك بمدة قصيرة أو طويلة بوصية أخرى ولم يذكر الأولى بنقضٍ ولا إثبات كانت الوصيتان ثابتتين، وهذا أيضاً مملا لا أحفظ في جملة خلافاً وإن كان قد اختلف فيما يكون رجوعه عن الأولى أولاً يكون رجوعاً عن الأولى، وذلك أنَّه إذا لم يرجع عن الأولى فالثانية وصية مستأنفة فوجب أن تصح كالأولى.
مسألة
قال: وقال القاسم عليه السلام: لو أن رجلاً أوصى بأكثر من ثلث ماله وأجازه الورثة من غير أن يعلموا أنَّه أكثر من الثلث فلهم أن يرجعوا في الزائد على الثلث.(112/12)
اعلم أن هذا مما يجب حمله على أن المراد فيما بينه وبين الله عز وجل؛ لأنَّه إذا علم أنَّه لم يجزه ما زاد على الثلث لم يلزمه، ألا ترى أنَّه لو لفظ فقال: قد أخرت منه مالم يتجاوز الثلث لم يلزمه ما تجاوزه ومن حكم النية أن تؤثر في اللفظ كما يؤثر فيها اللفظ، ألا ترى أنَّه لا فرق بين أن يلفظ بعموم يريد به الخصوص وبين أن يستثني ما أراد تخصيصه من جهة اللفظ، فإذا ثبت ذلك صح أن الذي يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى هو الذي نواه، وهذا كما يقول فيمن نادى امرأة من نسائه فأجابته أخرى فقال لها: أنت طالق، أن المطلة هي الأولى؛ لأنها هي المقصودة بالطلاق.
فإن قيل: هذا يخرج الإجازة من أن يكون لها حكمٌ؛ أن ما لم يرزد على الثلث جائزٌ، وإن لم يجزه.
قيل له: هذا وإن كان كذلك فلا يجب أن يلزمه ما لا يلزمه، وقد علمنا أن النية في حكم اللفظ في معنى الاستثناء والتخصيص، فإاذ ان هذا هكذا فسبيله سبيل من قال: أجزته إلى الثلث في أن هذا القول وإن لم تكن له فائدة فلا يلزمه ما زاد على الثلث، كذلك ما ذكرناه على أنَّه يجوز أن يكون لإجازته فائدة؛ لأن الموصي لو أوصى بالثلث أو ما فوقه واشترط في أصل الوصية إجازة الوارث كانت الإجازة حكم، فأما في ظاهر الحكم فيجب أن تلزمه الإجازة إذا أطلق القول؛ لأنَّه عم وعمومه يلزمه يظاهر الحكم، وهذا كما نقول فيمن لفظ بالطلاق معرباً لفظه عن القصد أن الطلاق لا يلزه فيما بينه وبين الله تعالى وإن حكم علهي به في الظاهر.
مسألة(112/13)
قال: وإذا أوصى الرجل بشيء من ماه فتله الموصى له بطلت الوصية، وهكذا ذكره في المنتخب، وذكر فيه أنَّه إن ضربه ثُمَّ عفى المضروب عن الضارب ومات من الضربة إن عفوه تكون وصيته من الثلث، والأقرب، واللهأعلم أن تحصيل مذهبه الفرق بين أن يكون القتل عمداً أو خطأً فكأنه أبطل الوصية لقاتل العمد وأجازه القاتل الخطأ كما ذهب إليه في الميراث؛ لأنَّه منعه قاتل العمد وورث قاتل الخطأ، وقال لا بد من الفرق بين العمد والخطأ، والأصل في ذلك ما روى الجصاص في شرح الطحاوي عن عاصم، عن زر، عن علي عليه السلام، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ليس لقاتلٍ وصية، وروى زيد بن علي، عن ابيه، عن جده، عن علي عليهم السلام موقوفاً: <لا وصية لقاتل>.
فإن قيل: فهذا يوجب أن لا وصية للقاتل عمداً أو خطأ؛ لأنهما لم يفصلا.(112/14)
قيل له: قد علمنا أن ذلك جارٍ مجرى العقوبة للقاتل، وقد علمنا أن المخطئ لا عقوبة عليه، ولهذا قال أبو يوسف أن الورثة لو أجازوها لم تجز، ويدل على أن قاتل العمد لا وصية له أنَّه لا إرث له، فوجب أن تكون الوصية كذلك، والعلة أنَّه مال يستحقه بالموت، فكل مال يستحقه بالموت فقتله المستحق عليه عمداً على وجهٍ يأثم فيه يوجب سقوطه على أن الإرث أوكد من الوصية لدخوله في ملك الوارث بغير اختياره، والوصية لا تدخل في ملك الموصى له إلاَّ باختياره أو اختيار من يقوم مقامه، فإذا سقط الأوكد بقتل العمد وجب سقوط ماهو دونه، وقدثبت عندنا أن قاتل الخطأ لا يبطل حقه من الإرث، فكذلك حقه من الوصية، والأولى على قول يحيى عليه السلام أن لا يجوز وإن أجازه الورثة كما ذهب إليه أبو يوسف؛ لأنَّه منع لا لحقالوارث بل على سبيل العقوبة وحكى الطحاوي في اختلاف الفقهاء عن مالك أنَّه قال: إذا كانت الجناية متقدمة على الوصية ومات من تلك الجناية فالوصية صحيحة للعامد والمخطئ في المال والدية إذا علم ذلك منه، وإذا كانت الوصية متقدمة ثُمَّ قتله الموصى له فالوصية لقاتل الخطأ يجوز في ماله دونديته، وقاتل العمد تبطل وصيته في المال والدية، والأصح عندي من مذهب يحيى وظاهر ما يدل عليه قوله الفق بين تقدم الجناية أو تقدم الوصية؛ لأنَّه سئل عن رجل ضرب رجلاً بسيف فعفى المضروب قبل أن يموت، فقال عفوه وصية يجوز من الثلث وبعيد أن يكون يكون أراد به المخطئ لأن من يضرب غيره بالسيف يبعد أن يكون مخطئاً فإجازته إنَّما هي لتقدم الجناية على ظاهر قوله: وسئل أيضاً عن رجلٍ أوصى لرجلٍ بثلث ماله ثُمَّ قتله، قال: لا تجوز له الوصية؛ لأنها لا تجوز للقاتل فأبطل الوصية لما تأخرت الجناية وتقدمت الوصية فيجب أن يكون ظاهر مذهبه ما ذكرناه، ووجهه أن إبطال الوصية عقوبة، فإذا أوصى بعد الجناية فكأنه عفى له عن هذه العقوبة فيجب أن تصح الوصية إذاً لزوال السبب الموجب لإبطالها(112/15)
ويحتمل الأخبار الواردة في هذا الباب عن علي من أوصى له ثُمَّ قتل.
فإن قيل: فما تقول فيمن أوصى لرجلٍ ثُمَّ جرحه الموصي له فعفى المجروح هل تكون وصيته صحيح.
قيل له: لا تصح وصيته؛ لأنَّه حين جرح أبطل وصيته متى كان جرحاً يؤدي إلى التلف فعفوه بعد ذلك لا يعيد الوصية إلاَّ أن يستأنف الموصي الوصية فتصح له فعلى هذا يجب أن يجري هذا الباب والله أعلم.
مسألة
قال: ووصية المكاتب جائزة على قدر ما أدَّى من الكتابة وذكرنا فيه ما ورد فيه من الأخبار الدالة على ما قلناه مما لا طائل في إعادتها، فإذا ثبت ذلك ثبت أن وصيته يجب أن تنفذ على قدر ما أدَّى من مال الكتابة؛ إذ هو في ذلك جارٍ مجرى الحر.
باب القول في الوصي وما يجوز له فعله(112/16)