قيل له: قد بينا أن ذلك المنع إنَّما هو للمال، ألا ترى إلى ما روي في الشفعة ولا يبيع الشريك قبل أن يأذن شريكه فمنع من البيع قبل أن يعلمه، ولكن لما كان ذلك للمال لم يؤثر تسليم الشفعة قبل البيع، كذلك مسألتنا على أنا قد علمنا أن الموصي أولى بالمال من الوارث، ألا ترى أنَّه يتصرف فيه وهو مالك له في الحقيقة، والوارث غير مالك ولا له شيء من التصرف، فإذا جاز للموصي أن يرجع فيما أوصى ما دام حياً مع تأكيد حاله فأولى أن يجوز للورثة الرجوع من الإجازة.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً عليلاً أصمت فقيل له: اعتق عبدك أو أوص بكذا فأشار برأسه إشارة تفهم أنَّه يريد ذلك جازت الوصية إذا علم أن عقله ثابتٌ وذلك أنَّه لا يصح منه في تلك الحال إلاَّ الإشارة مع اضطراره إلى الوصية قياسه الأخرس.
فإن قيل: فالأخرس يجوز سائر عقوده وإيقاعاته، فهل يجيزون جميع ذلك للعليل بالإشارة.
قيل له: لا يجيز ذلك؛ لأن العليل إنَّما يضطر ي تلك الحال إلى الوصية والأخرس يضطر إلى جميع ذلك على أنَّه ليس يعد أن نقول على قياس قول يحيى أنَّه إن اضطر إلى غير ذلك جاز ذلك بالإشارة يوضح ذلك ما روي أن يهودياً عدا على جارية فأخذ أوضاحها ورضخ رأسها بين حجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: <أقتلك فلان لغير ذلك اليهود فأشارت برأسها لا ثُمَّ قال ففلان لآخر، فأشارت برأسها لا، ثُمَّ قال: ففلان يعني قاتلها، فأشارت نعم، فأمر به صلى الله عليه وآله وسلم فرضخ رأسه بين حجرين فجعل صلى الله عليه وآله وسلم إشارتها بنعم بعد ما يعرف تمييزها دعوى، ويدلعلى ذلك حديث أمامة بنت أبي العاص حكى الطحاوي نحو قولنا عن الليث.
مسألة(112/7)
قال: وللعلين أن يهب من ماله ما شاء ويعتق من مماليكه من أحب ما دامت العلة خفيفة، فإذا اشتدت العلة وخف عليه لم يجز من ذلك إلاَّ مقدار الثلث، وهذه الجملة مملا لا أحفظ فيها خلافاً؛ لأن خفيف العلة لا إشكال في أن حكمها حكم الصحة؛ لأنَّه لا يخاف منه الموت سبيله سبيل الصحة كالفالج والشلل والنقرس، فالاعتبار بخوف الموت، ونص الطحاوي على الفالج والشلل أنهما بمنزلة الصحة، فإذا كات العلة مما يخاف منها الموت فيجب أن يراعى فيما يأتيه الثلث.
مسألة(112/8)
قال: وكذلك الحامل لها ذلك في أول الحمل، فإاذ تجاوزت ستة أشهر لم يجز لها إلاَّ الثلث، وكذلك من زحف للحرب له ذلك ما لم يصافَّ عدواً أو يباشر قتالاً، فإذا كان ذلك لم يجز فعله إلاَّ في الثلث، قال: أبو حنيفة والشافعي في الحالم أنها بمنزلة الصَّحيح حتَّى يضربها الطلق ثُمَّ تكون في حكم المريض، وقال أبو حنيفة: من بارز رجلاً أو قدم ليقتل في قصاص أو ليرجم للزنا فهو بمنزلة المريض، وقول مالك والليث مثل قولنا كل ذلك حكاه الطحاوي في اختلاف الفقهاء، وحكي عن ابن الميسب أن الحامل والغازي تصرفهما من الثلث، وعن ابن حي والثوري <إذا التقى الصفان فما صنع فهو وصية> والذي تيدل في الحامل على ما قلنا قول الله عز وجل: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حِمْلاً خَفِيْفاً فَمَرَّتْ بِهِ..} الآية ففصل بين حال أول الحمل وآخره، فوصف الأول بالخفة والآخر بالثقل، فدل ذلك على اختلاف حكمهما ولم يفصل أحد بينهما إلاَّ بما ذكرناه، والأصل في هذا الباب ما ثبت من أن العلة الخفيفة بمنزلة الصحة والثقيلة منها بمنزلة المرض، ولم يكن الفاصل بينهما إلاَّ أن ما يخشى عليه الموت من عارض عرض في مدة قريبة يكون حكمه حكم المرض المخوف ومن لم يكن كذلك يكون في حكم الصحيح، وقد ثبت أن من تجاوز ستة أشهر يخاف عليها الموت من الحمل في مدة قريبة، فأشبه من ابتدئ به البرسام أنَّه عرض له عارض يخاف عليه الموت في مدة قريبة.
فإن قيل: ولم قلتم أنَّه يخاف على الحامل بعد ستة أشهر الموت في مدة قريبة.(112/9)
قيل لهك لأن بينها وبين الوضع المتعاد أقل من ثلاثة أشهر، وهذه المدة قريبة؛ لأن كثيراً من الأعلال المخوفة قد تمتد هذا القدر وليس كذلك الفالج والنقرس؛ لأنهما يمتدان بصاحبهما سنين عدة، فوجب أن يكون ذلك حكم القريب، وكذلك من صاف للحرب أو باشر قتالاً لا يخاف عليه لعارضٍ عرض الموت في مدة قريبة فأشبه المبرسم، ويمكن أن يقاس ذلك مع أبي حنيفة على من بارز أو قدم ليقتل وليس لأصحاب أبي حنيفة أن يقولوا لا يجب الفصل بين أول الحمل وآخره؛ لأنهم فصلوا بين حالتي المحكوم عليه بالقتل المحارب إذا حضر الوقعة بل الصف، وإذا بارز وفصلوا بين حالتي المحكوم عليه بالقتل إذا حكم عليه به، وإذا قدم ليقتل قال: وكل ذلك إذا لم يجزه الورثة، وهذا قد مضى فيه ما يغني عن الإعادة.
مسألة
قال: وإذا مات الرجل بدي بما يحتاج إليه من التكفين والدفن ثُمَّ بالدين إن كان عليه ثُمَّ بالوصية، وهذه الجملة مما لا أحفظ فيها خلافاً؛ لأن الكفن والدفن مملا با بد للميت منه كستر العورة، وشد الجوعة للحي، فكما أن الحي إن كان عليه ديون تستغرق ماله فمقدار ما يستر عورته ويسد جوعته مستثنى منه، كذلك الكفن والدفن؛ لأنَّه مما لا بد له منه، الدين أولى بالتقدم من الوصية؛ لأنَّه واجبٌ في ماله، ولهذا لو استغر ماله لم يرثه الورثة، والوصية أصلها التطوع والتبرع، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي علهيم السلام، قال: لا وصية ولا ميراث حتَّى يقضي الدين.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أوصى لعبده بثلث ماله جازت الوصية، وعتق هو منها، فإن كات قيمته زائدة على الثلث سعى في الزائد، وإن كان الموصي لا مال له سواه سعى في ثلثي قيمته، وذلك أن الموصى له لا يستحق أكثر من الثلث، والعتق لا يصح يه التبعيض على ما نص في كتاب العتق، فلا بد من بت عتقه ثُمَّ يجب ألا يزيد الحاصل له على ثلث تركة الميت، فيسعى على ما بيناه وأظن الشافعي يبطل الوصية.
مسألة(112/10)
قال: ولو أنَّه أوصى لمساكين معروفين معدودين وجعل عبده في الوصية كأحدهم جازت الوصية لهم جميعاً وعتق العبد بحصته وسعى العبد باقي قيمته إن زادت القيمة على حصته، ووجهه أنَّه مالك العبد حرٌ من نفسه معلوماً، فأوجب ذلك عتقه؛ لأن العبد لا يملك نفسه على حدٍ ما يملكه سيده وإنما ملكهنفسه هو عتقه، فإذا وجب عتق بعضه وجب عتق سائره؛ لأن العتق لا يتبعض وواجبنا السعاية إن زادت قيمته على قدر حصته؛ لأنَّه حق للورثة، وهذا قد مضى تفصيله في كتاب العتق، قال: وإن أصى لمساكين غير معدودين وجعل العبد كأحدهم بطلت وصية العبد، ووجهه أن الوصية لا تعين في شيء بعينه؛ لأن للورثة أن يخرجوا الثلث من أي موضع شاءوا فلا يحصل للموصي لهم شركاً في التركة، فلم يجب أن يملك العبد حراً من نفسه وليس كذلك إذا أوصى بثلثه لقومٍ معدودين بأعيانهم؛ لأنهم يصيرون شركاء في التركة، فإذا كان العبد معهم كأحدهم صار هو أيضاً في التركة فصار شريكاً في نفسه، ووجهه بطلان الوصية للعبد أنَّه ليس بأحد بالفقر، ووصية مجهولة؛ لأنها غير معلومة أنها وصية بماذا، وحكى مثل هذا القول عن عطاء في اختلاف الفقهاء، قال أبو حنيفة والشافعي في مثله: يعطى الورثة ما شاؤوا أو شبهوه بمن أقر أن لفلان عليه شيئاً أنَّه يفسره بما شاء وبينهما فرق، وذلك أن الإقرار خبرٌ عن أمرٍ ثابتٌ وليس هو تثبيت وإيجاب، وإذا وقع مجهولاً قيل له: فسر فإنك قد أقرت على الجملة بأمرٍ ثابت، والوصية شيء مجهولٌ هو تثبيت حق مجهول لا ندري ما هو، فوجب أن تبطل، وهكذا يجيء على قول يحيى بن الحسين عليه السلام لو قال: أوصيت لك بسهم من مالي أنَّه يكون باطلاً.
فإن قيل: الوصية بالمجهول جائزة؛ لانه إذا أوصى بثلث ماله أو بربع ماله فيجوز أن لايكون عالماً بماله كله فيكون ذلك وصية بالمجهول.(112/11)