فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم آية الوالدين منسوخةوآية الوصيةمع الدين مخصوصة بقوله لا وصية لوارث.
قيل له: النسخ يجب إذا لم يمكن الجمع والتأويل وقوله لا وصية لوارث يحتمل أن يكون إلاَّ لا وصية لوارث يعني على حسبما كانوا يوصون به من قبل.
ويحتمل أن يكون المراد به فيما زاد على الثلث لئلا يقع بين الورثة بسببه الوحشة المؤدية إلىقطع الأرحام، وهذا مزية تختص الورثة لا يمتنع أن يكون تخصيصهم بالذكر من أجلها، وهذا الوجه هو الذي اعتمده يحيى عليه السلام في تأويل الخبر، وكذلك ما رواه زيد بن علي، عن علي عليه السلام من قوله: لا وصية لوارث محمولاً على هذين الوجهين.
ويمكن أن يقاس الوارث على غير الوارث بعلة أنَّه ممن تصح له الوصية فوجب أن يكون حكمه في باب الوصية حكم الأجنبي.
وأيضاً مذهب أكثر العلماء كأبي حنيفة والشافعي أنها تجوز إن أجازها بغير إجازتهم في الثلث، وما دونه باقي الورثة فيما زاد على الثلث، فوجب أن تجوز بغير إجازتهم في الثلث وما دونه دليله الأجنبي.
وأيضاً إذا ثبت أنها تجوز للوارث إذا جازه سائر الورثة فيجب أن يكون المنع منها لحق الورثة، وإذا ثبتت أن الورثة لا حق لهم في الثلث مع الميت فيجب أن تجوز الوصية للوارث؛ إذ لا يمع من جوازه لعدم ما هو التابع وهو حقوق الورثة يؤكد ذلك ما ثبت من الاتفاق بيننا وبين أبي حنيفة أن رجلاص لا وارث له لو أوصى بماله جميعاً بعض الناس أن الوصية صحيحة؛ لأنَّه أوصى بما لا حق فيه للورثة، فوجب أن يكون ذلك سبيل الوارث إذا أوصى له بالثلث، أو ما دونه؛ إذ لا حق فيه للورثة، فليس لهم أن يقولوا أنَّه في سبيل المحجور عليه فيما يتصرف الوارث فيما جرى مجرى الوصية؛ لأنهم بنوا ذلك علىأن لا تصح الوصية للوارث، والخلاف فيه وقع، وأما قبول الوصية له فلا خلاف في أنَّه شرط في تملكه ما أوصى له به، وأنه إن رده بطلت الوصية.
مسألة(112/2)


قال: وصايا المسلمين لأهل الذمة جائزة وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً؛ لأن الوصية جهة يصح أن يتملك بها المسلمون بعضهم على بعض بإيجاب المالك الأول وقبول المالك الثاني كالبيع والهبة، فوجب أن يصح تملك المسلمين بها على أهل الذمة، ويملك أهل الذمة على المسلمين؛ ولأن الله تعالى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمُوتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ} ولم يشترك أن يكون الوالدان والأقربون من المسلمين أو منأهل الذمة، وكذلك قوله من بعد وصية يوصىي بها أو دين لم يفصل بين أن يكون الموصى مسلماً أو ذمياً ولا بين أن يكون الموصى له مسلماً أو ذمياً فصح ذلك.
مسألة
قال: وللرجل أن يوصي في ماله إلى الثلث، وليس للورثة رده، فإن أوصى بأكثر من الثلث كان الأمر إلى الورثة إن شاؤوا أجازوا الزائد على الثلث، وإن شاؤوا ردوه، وهذا أيضاً مملا خلاف في، والأصل فيه حديث عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن مالك، قال: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود لي فقلت: يا رسول الله: إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلاَّ ابنتي، فأوصى بمالي كله، وفي بعض الروايات بثلثي مالي، قال: لا قلت والشطر، قال: لا قلتُ فالثلث، قال: الثلث والثلث كثيراً إنك إن تترك ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تتركهم عالة يتكففوان الناس فمنع صلى الله عليه وآله وسلم الوصية بأكثر من الثلث فاقتضى ذلك بطلانها وقصرها صلى الله عليه وآله وسلم على الثلث، فدل ذلك أيضاً على أنها لا تصح فيما زاد على الثلث، ونبه بقوله إنك إن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة على المنع لحق الورثة، فاقتضى ذلك أنهم إن جازوا الزائد على الثلث جاز وإن ردوه لم يجز
مسألة(112/3)


قال: ولو أن رجلاً أوصى لرجل بشؤء فمات الموصى له قبل الموصي بطلت الوصية؛ وذلك أن الوصية إنَّما تستقر بموت الموصي، وتصح، ألا ترى أنَّه في حياته له أن يرجع عنها ويتصرف فيها سائر التصرف، فإذا كان ذلك كذلك وكان الموصى له مات قبل الموصى بطلت الوصية؛ لأنها تكون بمنزلة الوصية للميت؛ لأن استقرارها وصحتها يكون بعد موته، فلم يصح أن تستقر.
مسألة
قال: ولا تجوز وصية من لا يعقل مثل الصبي والمجنون، ونص في الأحام على أن المجنون إن كان يفيق في وقت فوصيته في وقت إفاقته جائزة، وذلك مما لا خلاف فيه؛ لأن الصبي والمجنون تصرفهما في أموالهما غير جائز، فكذلك الوصية؛ لأنها ضرب من التصرف، وأما المجنون الذي يفيق في بعض الأوقات فإن وصيته تصح في تلك الأوقات؛ لأن السب المانع من جواز تصرفه هو الجنون، فقد زال بالإفاقة، فيجب أن تصح وصيته كما يجوز سائر تصرفه.
فصل
قال يحيى في الأحكام: كل من أوصى فوصيته جائزة إلاَّ أن يكون صبياً لا يعقل كابن خمس وستٍ وسبع وما دن عشر سنين فنبه به على أن ابن العشر تجوز وصيته، وبه قال مالك، ووجهه أن لا يمتنع أن يكون قد لزمه التكلف فيما بينه وبين الله تعالى، وإذا كان قد حس تمييزه فلا يجب أن يمنعه الانتفاع بماله في آخر عمره ولو أبطلنا وصيته كنا منعناه ذلك، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم إن الله جعل الثلث في أموالكم زيادة في أعمالكم فلا يجب أن يمنع منه المراهق المميز.
فإن قيل: فلا تمنعوه سائر العقود.(112/4)


قيل له: لا ضرورة في ذلك إذ غيره يقوم مقامه فيها على أنا نجيز لك منه بإذن وليه، وهذا يكون إذا أحسن الوصيةووضعها موضعها واستدل على ذلك بقول الله عز وجل: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدُ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِيْنَ يُبَدِّلُونَهُ}، وبأن يقاس على البالغ إذا كان في هذا السن بأن يقال: مميز أحسن الوصية، فوجب أن تصح وصيته وإن كان ابن عشر ولا يلزم عليه ما دون العشر بالإجماع، ولأن تمييزه لا يكاد يصح.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً أوصى بأكثر من الثلث من ماله وأجازه بعض الورثة ورده بعضهم جاز بمقدار حصة من أجازه، وهذا قد مضى وجهه إذا قد بينا أن منع الموصي من الوصية بأكثر من الثلث لحق الورثة وأجازتهم جائزة؛ لأنَّه إسقاط حق لهم لا يتعلق به إسقاط حق غيرهم وآحادهم في هذا كجماعتهم، هذا مما لا خلاف فيه.
مسألة(112/5)


قال: ولو أنَّه استأذنهم في أن يوصي بأكثر من الثلث فأذنوا له في ذلك وأجازوه جازت الوصية ولم يكن لهم أن يردوها بعد موته، ووجهه ما بيناه من أن المنع من الوصية بأكثر من الثلث إنَّما هو لحق الورثة، فإذا رضوا بإسقاط حقهم جرى مجرى الوصية في الثلث في أنَّه وصية بما لا حق فيه للورثة أو يجزي بجميع مال ولا وارث له في أنَّه يصح؛لأنه وصة فيما لا حق للوارث فيه وأيضاً قد ثبت أنَّه ممنوع من الوصية لحق الورثة بأكثر من الثلث، فإذا جازوه جازت الوصيةوخرج الموصي من أن يكون ممنوعاً بالشرع فأشبه الوصية بالثلث في أنها وصية وقعت وهي جائزة في الشرع، فوجب أن تستقربالموت، وهذا هو رواية الأحكام، وبه قال ابن أبي ليلى وعثمان البتي، وعن مالك أنهم ليس لهم الرجوع إن كان استأذنهم في حال المرض وإن كان استأذنهم وارثٌ ليس في عياله ونفقته فجعل للمن هو في عيالهالرجوع ولم يجعله للبائن عن، وقال يحيى بن الحسين عليه السلام في الفنون فهم الرجوع بعد موت الموصي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي، وبه أقول،ووجهه أن حق الورثة لم يستقر بعد، وما يمنع المريض منه إنَّما يمنع للمال، ألا ترى أنَّه إن تصرف في ماله أي تصرفٍ كان ثُمَّ عوفي كان ذلك ممضي ولم يجب رده إلى الورثة فأشبه الشفعي يسلم الشفعة قبل وقوع البيع في أن له الرجوع فيما سلم بعد البيع؛ لأنَّه سلم حقاً لم يستقر له بعد فوجب أن يكون له الرجوع بعد الإستقرار، وذكلك البراءة من الرد بالعيب لا يؤثر قبل البيع، وكذلك إبطال خيار الثلث قبل البيع لا يصح ويشهد لقياسنا الأمة تختار زوجها قبل العتق، ألا ترى أن لها ترجع عن ذلك وتختار نفسها بعد العتق؛ لأن الي كان منها كان إبطال حق لها لم يستقر، فكذلك ما ذهبنا غليه.
فإن قيل: لولا استقرار حق الورثة لم يمنع المريض من أن يوصي بأكثر من الثلث.(112/6)

20 / 122
ع
En
A+
A-