قال: ولو أن رجلاً قتل رجلاً فجاء آخر فقتل القاتل بغير إذن ولي الدم كان ولي الدم القتيل الثاني بالخيار إن شاء قتل قاتله وإن شاء أخذ الدية فإن أخذ ديته ردها إلى أولياء القتيل الأول، وذلك أن القاتل الثاني قاتلٌ عمد فيجب أن يثبت حقه على ما مضى من أبواب القصاص يوجب استقرار الدية، فإن كان المقتول الثاني خلف مالاً يفيء بالدية حكم بالدية في ماله وإن لم يكن له مالٌ واختار وليه قتل قاتله ان له ذلك ولم يكن لولي القتيل الأول استيفاء ديته؛ لأنَّه يكون بمنزلة من قتل عمداً ثُمَّ مات فقيراً قبل أن يقتص منه فيبطل حق ولي المقتول الثاني الدية من القود والدية جميعاً لتعذر استيفاء واحدٍ منهما، فإن اختار ولي المقتول الثاني الدية حكم له بها ووجب تسليمها إلى ولي القتيل الأول؛ لأن الدية إذاحصلت صارت بمنزلة ميراثٍ تركه، ألا ترى أنَّها تقسم على حسب المواريث.
فإن قيل: إذا لم يكن للقتيل الثاني وفاء بالدية فما أنكرتم أن لا يكون لوليه قتل قاتله بل يلزمه أخذ الدية ليوفي دية القتيل الأول.
قيل له: لأنَّه مخير بين القود والدية ولا يبطل حقه من الخيار لحق يلزم في مال قتيله؛ لأنهلا سبيل إلى إبطال حقه ليثبت حق غيره؛ ولأن حقه ثابتٌ في الخيار بين القود والدية وحق القتيل الأول غير ثابت إلاَّ أن يحصل المال ولا يبطل حقاً ثابتاً بسبب حق غيره ثابت يكشف ذلك أن من باع داراً لها شفيع واشترط البائع لنفسه خياراً لا يبطل حقه الثابت من الخيار ليثبت حقاً لم يثبت بعد للشفيع، وهذا واضح ونظائره كثيرة.
مسألة(111/25)


قال: وإذا قتل الرجل وله وليان وعفى عنهأحدهما وقتله الآخر لزمه القود إن كان علم بعفو صاحبه وإن انلم يعلم بعفوه حتَّى قتله لزمه من الدية بقسطه، حكى لي من أثق بحايته من أصحاب أبي حنيفة أن مذهبه يلزمه القود إن كان علم بعفو صاحبه وعلم أنَّه ليس له أن يقتله مع عفو صاحبه ثُمَّ قتله فالأقرب أن يكون هذا مذهبنابأن القود يجب بحصول هذين العلمين، فإن يحيى عليه السلام يعتبر حصول العلم في درء الشبهات، ووجه ما ذهبنا غليه أنَّه لاحق له في دم القاتل وإنما له عليه نصيبه من الدية وإذا قتله واحال هذه وهو عالمٌ بها فهو بمنزلة من قتل أجنبياً له عليه دين ولا شبهة عليه في استباحة قتله في أنَّه يلزمه القود وذلك أن الدم لا شبهة فيه وهو نفسه لاشبهة عليه فيه، فصار القتل عمداً محضاً ويمكن أن يقاس على من قتل خطأ في أن ولي المقتول متى قتله مع المتعدي، فأما إذا لم يعلم بالعفو فإنه يدرأ عنه القصاص للشبهة وكذلك إن لم يعلم أن عفو صاحبه يسقط القصاص، فإذا سقط القصاص للشبهة الَّتِي ذكرنا وجبت وهي ما زاد على نصيبه؛ لأن مقدار نصيبه من الدية مما يستحقه فيحط من جملة الدية وقد مضى فيمواضع أن سقوط القصاص لأي وجهٍ سقط يوجب الدية.
مسألة(111/26)


قال: ولو أن رجلاً قتل رجلاً خطأ أو عمداً ثُمَّ علم أنَّه كان قتل أباه أو ابنه عمداً لم تلزمه دية ولا قود، وهذا إذا لم يكن له وارثٌ غيره ووجهه أنَّه بمنزلة من وطئ امرأة ثُمَّ علم أنها زوجته أو مملوكته في أنَّه لا يلزمه لهامهر ولا حد وبمنزلة من سرق من إنسان مالاً ثُمَّ علم أنَّه كان بعينه ماله وذلك أنَّه لو قتله مع العلم به لم يلزمه القود لكونه مستحقاً للدم الذي أراقه، فكذلك إذا لم يعلم؛ لأن الدم الذي أراقه كان مستحقاً في الحالين، وكذلك سبيل الوطء الذي ذكرنا والمال المسروق الذي وصفنا، فأما إذا كان له وارث غيره فالذي يقتضيه قياس قول يحيى عليه السلام أن القود يسقط وتلزمه الدية إلاَّ قسطه منها وذلك أنَّه نص على منوطئ جارية بينه وبين شريكه فلا عليه بشبهة الملك وعليه العقر في نصيب شريكه فيجب أن تكون هذه المسألة محمولة عليها؛ لأن القاتل له حق الإراقة في الدم فيكونذلك شبهة توجب درء القصاص بل هذه المسألة أوكد من شبهة الوطء؛ لانه يصح منه إراقته متى اجتمع عليه هو وصاحبه أو إن أذن له صاحبه وليس كذلك الوطء؛ لأن وطئ جارية بين شريكين لا يجوز على وجه من الوجوه كما يجوز قود أحد دم بين وارثين.
باب القول في جنايات المماليك(111/27)


إذا قتل العبد الحر عمداً وجب تسليمه إلى ولي الدم فإن شاء ولي الدم قتله وإن شاء باعه وإن شاء وهبه وإن شاء استرقه وإن شاء عفى عنه وأعتقه وله إن شاء أن يعفوا للسيد عن عبده أو يصالحه على الدية أو غيرها فإن كان القتل خطأ كان مولاهمخيراً بين أنيسلمه إلى ولي الدم وبين أن يفديه بدية جنايته فإن سلمه إلى ولي الدم كان له أن يتصرف فيه في جمع وجوه التصرف الَّتِي ذكرنا في المسألة الأولى غير القتل، أما الخطأ فلا خلاف فيه بيننا وبين أبي حنيفة وعند الشافعي أن صاحبه إن شاء فداه بجنايته وإن شاء باعه في الجناة، وأما العمد فقول أبي حنيفة إن صاحبه يسلمه القتل دون الاسترقاق إلاَّ أن يتصالحا بينهما صلحاً؛ لأن من أصله أن العمد ليس فيه إلاَّ القصاص والعفوا والصلح وتحصيل مذهبنا أن صاحب العمد يسلمه في العمد إلى ولي الدم إلاأن يعفوا ولي الدم عن الدم أو يصالحه، فإذا أسمه وملكه جاز له أن يتصرف في عبده فيه كما يتصرف في عبده إذا قتل ابنه من القتل والهبة والاستخدام أو العفوا أو العتقمع العفوا، والأصل في هذا أن جناية العبد إما أن تكون في ذمته أو في رقبته أو ذمة سيده إذ لا يجوز أن يكون هدراً ولا يجوز أن يكون في ذته؛ لأن العبد ليست له ذمة ثابتة وإنما له ذمة منتظرة ربما تحصل بالعتق وربما لا تحصل إن لم يعتق.
فإن قي: أليس لو أقرضه مقرضٌ شيئاً ثبت في ذمته.
قيل له: لأن المقرض رضي بذمة منتظرة غير حاصلة، وليس كذلك حكم الجناية ولا يجوز أن تثبت في ذمة سيده؛ لأنَّه لم يجنها ولم يجت تحويلها إلى ذمته.
فإن قيل: أليس يثبت في ذمة العواقل ما لم يجنوا ولم يرضوا بتحويله إلى ذممهم فما أنكرتم أن يكون ذلك سبيل السيد.(111/28)


قيل له: أمر العواقل بخلاف القياس إذا اكن القياس ألا يلزمهم شيء إلاَّ أنا اتبعنا فيه الإجماع والأثر وليس كذلك حال السيد، فإن الإجماع على خلاف ذلك؛ لأنَّه لا خلاف أنها تثبت في ذمته إلاَّ باختياره، فإذا بطل أن يثبت في ذمة العبد أو ذمة سيده لم يبق إلاَّ أن يثبت في رقبة العبد.
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون ذمة العبد مثل ذمة الفقير في أنَّه يثبت فيها جناية، ألا ترى أنَّه لا يمكن استيفاؤها منه لفقره ولم يمنع ذلك من تعلق جنايته بذمته.(111/29)

18 / 122
ع
En
A+
A-