قال: ولو أن رجلاً خنق رجلاً بيده أو بحبل أو وترٍ حتَّى قتله ان عليه القود، وبه قال الشافعي والأصل فيه ما بيناه فيما مضى من أن القود يجب فيما يقتل به غالباً وقد ثبت أن الخنق يقتل به كما يقتل بالسيف فوجب أن يكون حكمه حكمه والظواهر الَّتِي توجب القصاص يمكن أن تتعلق بها لإيجاب القصاص من الخنق.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قتل رجلاً عمداً بسهم رماه أو جرح جرحه أو ضربة ضربه بها كان الواجب لأولياء الدم أن يضربوا عنقه ولم يكن لهم أن يفعلوا به ما فعل هو بصاحبهم، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي يفعل به ما فعل وهو بمن قتله، والدليل على صحة ما قلناه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لا قود إلاَّ بالسيف، وروي: <لا قود إلاَّ بحديدة فمنع صلى الله عليه وآله وسلم القود إلاَّ بحديدة، وروى عنه <إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وإذا قتلتم فأحسنوا القتل> والمراد به التوجيه، ونهى صلى الله عليه وآله وسلم عن المثلة، وقال: <لا تمثلوا بآدمي ولا بهيمة>، ونهى أن يجعل ذو الروح عرضاً وكل ذلك مما يجوز أن يتفق مثله من القاتل، وقد نهينا عن فعله فعلم أن القود يجب أن يكون بضرب العنق؛ لأنَّه أوحى للقتل وأقله تعذيباً.
فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سِيْئِةٌ مِثْلُهَا}.
قيل له: ما نهى عنه صلى الله عليه وآله وسلم صار مخصوصاً من الآية وعلى هذا يجب إن سألوا عن قوله: {فَمَنْ اعْتُدِيَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتُدِيَ عَلِيْكُمْ}.
فإن قيل: فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر باليهودي الذي كان رضح رأس الجارية بين الحجرين فماتت أن يرضح رأسه بين حجرين حتَّى مات.(111/20)


قيل له: يجوز أنيكون فعل ذلك قبل نسخ المثلة كما فعل بالغرينين من سلم الأعين والطرح لهم في الشمس إلى أن ماتوا ثُمَّ نسخ ذلك ودل على نسخه الخبار الَّتِي قدمناها ولا خلاف في أن من قتل باليف فقوده بالسيف كذلك من قتل بغيره، والعلة أنَّه قود ويقال لهم: لا يخلوا من أن يكون القاتل استحق عليه القتل فقط أ يكون استحق عليه ان يفعل به مثل ما فعل هو بالقتل أو يكون استحق الجميع ولا يجوز أن يكون استحق ذلك مع القتل؛ لأنَّه يكون فعل به أكثر مما فعل بصاحبه؛ لأنَّه إذا كان قطع يداً من رجلٍ فمات من ذلك لو استحق أن يقطع يده ثُمَّ إذا لم يمت استحق القتل بالسيف كان قد استحق أكثر مما فصل، وهذا ممال يا يجوز، ألا ترى أنَّه لا خلاف بين المسلمين أن الآمة والجائفة لا قصاص فيهما إذ لا يؤمن أن يلحق الجاني أكثر مما يستحقه بفعله من الألم ولا يجوز أن يكون الذي استحقه أن يفعل به ما فعل لوجهين، أحدهما أنَّه قد لا يكونمضبوطاً مقداره على التحقيق فلا يجوز أن يستحق كما لا يجوز أن يستحق القصاص في الآمة والجائفة وسائر الجراحات الَّتِي هي غير الموضحة والإبانة من المفصل؛ ولأنه لو كان هو المستحق لوجب أن يقتصر عليه مات منه أو لم يمت فلما فسدت فساد قوله من قول أنَّه استحق هذين ثبت أنَّه لم يستحق إلاَّ القتل فقط، وكان أوحى القتل ضرب العنق فوجب أن يكون هو المستحق وإن لا يتجاوز إلى ماسواه وأيضاً لا خلاف أن من أوجر غيره خمراً حتَّى قتله لا يجوز أن يؤجر خمراً حتَّى يقتل ووجب أن تضرب عنقه باليسف، كذلك من قتل بغير ذلك، والمعنى أنَّه قود، وهذا ينقض تعليلهم؛ لأنَّه يجب أني فعل به ما فعل هو بالقتيل وايضاً هو قتل مستحق بالشرع فوجب أن لا يستوفي مع التمكن من سواه بالإحراق أو التغريق والخنق دليه قتل المرتد والزاني المحصن، وإذا بطل ذلك بطل استيفاؤه بغير السيف وضرب العنق.
مسألة(111/21)


قال: ولو أن رجلاً لم رجلاً لطمة اقتصَّ منه بلطمته إلاَّ أن تكون وقعت في العين أو في موضع مخوف منه التلف فإنه لا يقتص منه، والوجه في ذلك ما قدمناه في الجروح من أن يقتص منها ما أمكن ضبطه ومعرفة قدره ولم يكن معه خشية التلف ولا يقتص منها ما خالف ذلك.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قتل ابنه لم يتقل به، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وعامة العلماء، قال مالك إنحذفه باليف فقتله لم يقتل به، وإن ذبحه قتل به، والأصل في هذا حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: لا يقتل والدٌ بولده،وهذا نصٌّ فيما ذهبنا إليه ولم يعتبر وجوه القتل، فوجب أن لا يقتل به على حال من الأحوال، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يقتص ولد من والده ولا عبدٌ من سيده فلما منع الولد من الإقتصاص من والده علم أنَّه لا قصاص على الواد لولده؛ لأنَّه لوكان عليه قصاص كان يجوز أن يقتص هو إذا جنى عليه جناية وجب القصاص، وروي أن رجلاً جرى بينه وبين امرأته كلام فاعترض له ابنه فحذفه بسيفه فقطعه باثنين فرفع ذلك إلىعمر فلم يقتله وأخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <لا يقتل والد بولده> وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <أنت ومالك لأبيك> فوجب أن يكون ذلك شبهة يدرأ بها القصاص كما أن الشبهة يدرأ بها القطع وأيضاً إضافة صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبيه إضافة الملك فيجب أن ينتفي القود كما انتفى القود عن المولى إذا قتل عبده ولا خلاف إن قتله إياه بالسيف بحذفهبه لا قصاص فيه، كذلك إذا ذربحه والمعنى أنَّه إن قتل ابنه فيجب أن لا يقتص له وإن شئت قست الذبح على القتل بالحذف بالسيف كالعبد لما كان قتله بالحذف بالسيف لايوجبقصاصاً لم يوجب الذبح يوضح ذلك أنا وجدناهما أعني القتل بالحذف بالسيف والذبح لا فرق بينهما في(111/22)


العمد في الأجانب فوجب أن لا يكون بينهما فرق في الولد والوالد.
فإن قيل: الأب جعل له تأديب ابنه وقد يحذفه باليسف تأديباً وليس كذلك الذبح.
قيل له: ليس لأحد أن يؤدب من جعل إليه تأديبه بالحذف بالسيف فهذا مما لا معنى له على أنَّه إذا لم يقتل إذا قتل ابنه بسيفٍ حذفه به لم يخل ذلك من أن يكون لحال يرجع إلى الفاعل أو لحالٍ يرجع إلى الفعل الذي هو القتل فإن كان لحالٍ يرجع إلى القاتل وهو حرمة الولادة فيجب أن لا يقتل وإن ذبحه وإن كان لحالٍ يجع إلى القتل فكل من قتل على ذلك الوجه يجب أن ينتفي عنه القود، فلما لم يجب انتفاء القود عن كل من قتل على ذلك الوجه وجب أن يكون ذلك لحالٍ يرجع إلى القاتل وهي حرمة الولادة فوجب أن لا يقتل الأب على أي وجهٍ قتل ابنه.
فإن قيل: لم يقتل لشبهة في الفعل وهي شبهة التأديب.
قيل له: فالحاكم يجب أنل ا يقاد منه إذا حذف غيره بسيف فقطعه نصفين نشبهه التأديب؛ لأن حال الحاكم في باب التأديب أقوى من حال الأب، فأما الابن فلا خلاف في أنَّه إذا قتل أباه قتل به، قال: وعلى الأب إذا قتل ابنه عمداً الدية يسملها إلى سائر ورثته ولم يرث هو منها شيئاً ولا من سائر إرثه هذه الدية لا خلاف أن العاقلة لا يحملها؛ لأنها دية عمدٍ وكل عمدٍ سقط فيه القود زلمت الدية كانت الدية في مال القاتل وهي لسائر ورثته دونه؛ لأن قاتل العمد لا يرث المقتول من ديته كما لا يرث من ماله لا خلاف فيه.
مسألة
قال: لوو أن جماعة قتلوا رجلاً عمداً فعفى ولي الدم عن بعضهم لم يكن له أن يقتل الباقين فله أن يأخذ من كل واحدٍ من الباقين دية دية وعند الشافعي وأبي حنيفة: له أن يقتل الباقين ووجهه أن دمالقتيل قد دخله العفوا فوجب أن يبطل القود بعده كما أن واحداً من الورثة لو عفى عن نصيبه من القاتل بطل القود بعده الدخول العفوا فيه.
فإن قيل: العلة في ذلك أن دم المقتول قود فلا يصح تبعيضه فإذا دخله العفوا سقط القود.(111/23)


قيل له: لا يمتنع أن يكون ما ذكرتم علة إلاَّ أنها تمنع صحة علتنا فنقول بالعلتين جميعاً، ويوضح ذلك أنَّه لا بد من اعتبار حال دم المقتول أولاً، ألا ترى أنه إذا دخلته شبهة أو بعضه سقط القود إذا كان القاتل حراً مسلماً، فبان بذلك صحة علتنا، فأما إيجاب أن يأخذ من كل واحد منهم دية فقد مضى وجهه، قال: فإن قتل بعضهم ثُمَّ عفى عن الباقين صح ذلك، وهذا ما لا خلاف فيه؛ ولأن القتل لم يقع بعد العفو فلم يكن فيه قود ولم يكن فيه تعدٍ ولم يكن قود عن دم دخله العفوا فصح ذلك.
مسألة
قال: وإذا ادعى أولياء الدم على رجلٍ أنَّه قتل قتيلهمخطأ وقال للمدعى عليه: بل قتلته عمداً فلا قود فيه، ولا دية إلاَّ أن يصدقوه وذلك أن ماادعاه ولي الدم من قتل الخطأ ينكره المدعى عليه ولم يجب أن يلزمه دعوى المدعي وما أقر به المدعى عليه قد دفعه ولي الدم فسقط إقراره فلم يجب أن يثبت شيء من ذلك.
فإن قيل: إنَّه إذا أقر بالعمد فقد أقر بلزومه الدية إن اختار ولي الدم على أصولكم وولي الدم قد ادعى عليه الدية بادعاء الخطأ فقد اتفقا على وجوب الدية.
قيل له: إن ولي الدم حين دفع إقراره بقتل العمد أبطل كل حكم يتعلق به، وإنما ادعى عليه دعوى مستأنفة لم يقر الخصم بها فلم يجب على هذا ثبوت الدية على أن دية العمد حكمها مخالف لحكم دية الخطأ؛ لأن دية الخطأ تلزم العاقلة ودية العمد في مال القاتل ودية الخطأ تؤخذ في ثلاث سنين ودية العمد حاله، فلما اختلفت أحكامهما لم يكن ما أثبته أحدهما نفس ما أثبته الآخر فلم يجب ثبوت شيء منه.
فإن قيل: قد ثبت القتل باتفاقهما فأقل ما فيه يوجب الدية.
قيل له: الذي ثبت هو القتل وكلامنا في موجب القتل وقد اختلفوا فيه فلم يستقر؛ لأن القتل قد يكون ولا يجب الموجب ولم يجب إلزام الدية؛ لأنها من موجب القتل الذي لم يستقر؛ لأن القتل قد يكون ولا يجب له قودولا دية، فأما إذا صدقوه ثبت العمد ووجب القود.
مسألة(111/24)

17 / 122
ع
En
A+
A-