قال: ولو أن رجلاً فقأ عين واحد وقطع يد آخر أو رجله وجدع أنف آخر ثُمَّ قتل رجلاً اقتص منه لكل واحد من هؤلاء ثُمَّ أقيد بالمقتول وذلك أنَّه جنى على كل واحد منهم جناية وجب فيها القصاص، فوجب أن يقتص منه لكل واحد منهم ثُمَّ وجب أن يقاد منه للأخير الذي قتله ليكون قد استوفي لكل ذي حق حقه من القصاص إذ هو واجب وليس فيه ما يمنع فعله حكماً ولا تعذراً.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً قتل رجلاً عمداً ثُمَّ عفى عنه بعض أولياء الدم سقط عنه القتل وطولب بالدية كاملاً وإن كان الذي عفى عنه أسقط عنه نصيبه من الدية سقط وطالبه البقاون بحصصهم من الدية إذا عفى بعض أولياء الدم وأسقط القود ففلا خلاف أن القود يسقط بواحدة وأن حق الباقين ينتقل إلى الدية؛ لأن الوقد لا يتبعض، فإذا دخل العفوا في بعض الدم دخل في باقيه وقلنا أن نصيب من عفى لا يسقط الدية ؛ لأن الواجب كان أحد شيئين على ما بيناه القود أو الدية فعوله عن القود وإسقاطه إياه لا يوجب سقوط الدية نصيبه من الدية ولا وجه لما حكى من أحد قولي الشافعي أن العفوا عن الدم سيقط الدية إن لم يختر الدية حين العفوا عن القود لما بيناه من أن القود والدية جميعاً واجبان على طريق التخيير وأيضاً لو كان سقوط القود يوجب سقوط الدية لوجب أن تسقط الدية رأساً كما يسقط القود رأساً، فلما ثبت أن القود يسقط بعفوا الواحد من الأولياء وتبقى حصص الباقين من الدية وصح أن سقوط القود لا يوجب سقوط الدية، فوجب أن لا يسقط نصيب الذيعفى عن القود من الدية كما لم يسقط نصيب الباقين إلاَّ أن يكون أيضاً أسقط نصيبه من الدية، وكتة الباب أن سقوط القود لا يوجب سقوط الدية ويكشف بالأمة والجائفة والمنقلة؛ لأن القود ساقط في جميع ذلك ولم يجب أن تسقط ديتها.
مسألة(111/15)


قال: وإذا قتل الجل وله أولاد صغار انتظر بلوغهم ثُمَّ إن شاؤوا أخذوا الدية وإن شاؤوا قتلا وإن شاؤوا أسقطوا عنه الدية والقتل جميعاً،لم ينص يحيى عليه السلام على حكم من قتل وله أولاد صغار وكبار إلاَّ أن عموم قوله: وله أولاد صغار انتظر بلوغهم يوجب الانتظار سواء كان له ولدٌ بالغٌ أو لم يكن وهنا الأحرى على ماذهبه، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأظنه قول الشافعي، فرواه يحيى بلفظه هذا عن القاسم عليهما السلام، قال أبو حنيفة: للبالغ أن يقتص ووجه هذا القول أنَّه لا خلاف فيمن قتل وله أولادٌ غيب وحضَّر أنَّه لا يقتله الحضر حتَّى يحضر الغيب، وكذلك الكبار والصغار والعلة أن في أخذهم القود تفويتاً لحقوق الباقين.
فإن قيل: فقد روي أن الحسن بن علي ععليهما السلام قتل ابن ملجم وكان لعلي أولاد صغار.
قيل له: عندنا أنَّه مقتول على الردة بدلالة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: <يا علي إلاَّ الكافر> فثبتت الردة بهذه الدلالة.
فإن قيل: لم انتظر به موت علي؟
قيل له: لا يمتنع أن يكون موته عليه السلام هو الدال أو الموجب لردته لأنَّه لا يكونقاتلاً حتَّى يموت المجروح والنبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل ذلك الحكم لقاتله.
فإن قيل: لما كان الغصير ممن يولى عليه جاز للولي أن يزوجه إذا كان النكاح مملا لا يتبعض.
قيل له: هذا منتقض بالطلاق ولأن الولي لا يطلق عليه على أن أبا حنيفة لا يعتبر فيه الولي؛ لأن قوله أن للوارث الكبير أن يقتص أي وارثٍ كان ولو ان من ذوي الأرحام، قال: وكذلك إن عفى بعضهم بعد البلوغ سقط القود وقد بينا ذلك فيما تقدم.
مسألة(111/16)


قال: ولو أن إنساناً سقى صبياً سماً عمداً فمات قتل به، وذلك أن السم يقصد القتل به كما يقصد بالسيف وربما كان السم أوحا، فإذا حصل قاتلاً ففيه القود لقوله الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصَ فِيْ الْقَتْلَى}وهذا إسا سقاه بيده أو جعله في طعام وصيره في فيه، فأما إن جعله في طعام وشراب وخلى بينه وبين الصبي حتَّى يتناوله باختياره، فالأقب أنَّه يلزمه الدية دون القود؛ لأنَّه لم يباشر القتل بنفسه كمن حفر بئراً في طريق من طرق المسلمين وإن كان قصده أن يعنت فيه عانتٌ فوقع فيه إنسانٌ أنَّه يلزمهُ الدية دون القود، وهذا وما ذكره في إيجاب القود بالخنق يكشف أن مذهبه إيجاب القصاص إذا قتل بكل شيء، الغالب منه أنَّه يقتل، وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد، قال أبو حنيفة: لا قود إلاَّ أنيقتل بالسيف أو الحديد أو ما يعمل بعملهما، وهذا غير صحيح، والدليل علىصحة ما ذهبنا إليه قول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِيْ الْقَتْلَى} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيْهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ..} الآية، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <العمد قودٌ> وما روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوم فتح ملكة فقال: <ألا ومن قتل قتيلاص فوليه بالخيار النظرين بين أن يقتص منه أو يأخذ الدية إلى غير ذلك من السنن الواردة في هذا الباب فأوجبت هذه الظواهر من الكتاب والسنة القصاص لكل قتيل وقوله: <العمد قود> أوجب القصاص في كل عمد، فلما أجمعوا على أن المخطئ لا قود عليه، وكذلك من قتل بما لا يقتل به غالباً أنَّه لا قود عليه خصصنا ذلك وفي ما عداه على حكم القصاص بقضايا هذه الظواهر، وروى الطحاوي بإسناده عن قتادة عن أنس أن يهودياً رضخ رأس جارية بين حجرين فقيل لها: من فعل بك هذا فأشارت إلى اليهود فأتي به فاعترف فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرضخ رأسه بين حجرين، فدل ذلك على وجوب القود، وإن لكن القتل(111/17)


بالحديد.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <كل شيء خطأ إلاَّ السيف>.
قيل له: إنكم قد خصصتم هذا بأن قلتم إنَّما يعمل عمله من الحديد أو الخشب المحدد ففيه القود، وكذلك فيمن أحرق غيره بالنار فهلا جاز لنا أن نخص منه كلما عرفنا من حاله أن يقتل به غالباً للأدلة الَّتِي قدمناها.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال يوم فتح مكة: <ألا إن قتل الخطأ بالسوط والعصا الدية فيه مد مغلظة>.
قيل له: قد تكلمنا في ضعف هذا الخبر في مسألة شبه العمد بما لا يحتاج إلى إعادته وأصحاب أبي حنيفة يضعفون ذلك، ولهذا لا يرجع أبو حنيفةفي التغليظ إلى مضمونه وبينا إن صح ذلك فلا يمتنع أن يكون الغرض بيان جاز الصلح على التغليظ من العمد.
فإن قيل: فقد روي أقتيل امرأتان من هذيل فقتلت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دية جنينها بغرة وقضى بديتها على العاقلة.
قيل له: لا يمتنع أن تكون رمتها بحجر لا يقتل مثله فقتلتها به، فلهذا أوجب الدية ونحن لا ننكر ذلك على أنَّه روي أنها ضربتها بعمود قطاط، وروي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتلها مكانها فمن أمر بقتلها كان يجوز أن تكون قتلت بما تقتل به غالباً ومن ألزمت الدية يجوز أن تكون قتلت بما لا يقتل مثله غالباً.
فإن قيل: لما قال قتيل العمد الخطأ دل ذلك على أنَّه يضمن العمد إلى القتل.(111/18)


قيل له: عن هذا جوابان أحدهما أنَّه ما بيناه أنَّه أراد العمد وإنما قال: الخطأ لأن القاتل لا يبعد أن لا يكون له قصدٌ إلى القتل والثاني أن العمد يتضمن عمداً إلى شيء ما وليس في الخبر ما ذلك الشيء فيجوز أن يكون أراد العمد إلى الضرب فرقاص بينه وبين أن يقصد غيره فيصيبه فإن ذلك لا يكون عمداً إلى الضرب ولا إلى القتل وأيضاً لا خلاف أن من قتل بم له حداً أو أحرقحتى قتل فإنه يقاد منه كذلك ما اختلفنا فيه، والعلة أنَّه مما يقتل به غالباً وأيضاً قد علمنا أن أصحاب الحروب يعدون الحجر كالسلاح في أنهم يحاولون القتل به، وذكلك الأتراك يقاتلون في الحروب بالأعمدة ويسونها اللتوت، فقد بان أن هذه الأشياء قائمة مقام السيف، ومنها أيضاً ما هو أنكى من السيوف إذا ضرب به فصح أن الإعتبار إنَّما هو بما يقتل غالباً؛ لأن ذلك يسمى قتالاً كما يسمى القتال بالسيف قتالاً.
فإن قيل: فقد روي <لا قود إلاَّ بالسيف>.
قيل له: كذلك نقول ولا نوجب أن يسقاد إلاَّ بالسيف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لميقل لا قود إلاَّ من السيف وإنما قال: <لا قود إلاَّ بالسيف>.
مسألة
قال: ولو أن جماعة شهدوا على رجلٍ عند الإمام بأمرٍ يوجب قتله فعتله الإمام بشهادتهم ثُمَّ أقوا أنهم كذبوا في شهادتهم وتعمدوا قتل الرجل بها قتلوا جميعاً، وكذلك إن أقر بعضهم قتل المقر منهم إلاَّ أن يشاء ولي الدم أن يأخذ دية كاملة من كل من أقرب منهم فله ذلك فإن قالوا: شهدنا غلطاً ولم نتعمد لم يلمهم إلاَّ دية واحدة، وهذا قد مضى الكلام في مثله في مسألة شهود الزنا والإحصان إذا رجعوا بعد الرجم مع العمد أو الخطأ وإيجاب الدية الكاملة على كل من قتل عمداً وإن كانوا جماعة قد مضى الكلام فيه فلا وجه لإعادته والله أعلم.
مسألة(111/19)

16 / 122
ع
En
A+
A-