قالوا: إن جماعة من الرجال أو الرجال والنساء قتلوا رجلاً عمداً قتلوا جميعاً إلاَّ أن يشاء ولي الدم أن يأخذ من كل واحدٍ منهم دية من ماله، فذلك له، فإن اجتمعوا على قتل رجلٍ خطأ لزمتهم جميعاً دية واحدة، أما قتل الجماعة بواحدٍ فيه، قال أبو حنيفة والشافعي وكثير من العلماء، وبه قالأحمد بن عيسى والقاسم وعن الناصر أو لي الدم يقتل واحداً يخاره ويأخذ من الباقين للمقتص منه قسطهم من الدية وعن مالك لا يقتلون، والدليل على صحة ما ذهبنا غليه قول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أُوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَى النَّاسَ جَمِيْعاً}وقد علمنا أنَّه ليس المراد به في الإثم؛ لأن قاتل النفس الواحدة لا يجوز أن يكون إثمه مثل مثل إثم قاتل الجماعة فلم يبق إلاأن يكون المراد به الكمُ، فكان المراد به أن قتل الواحدكقتل الجماعة حكماً، فلما كان كذلك وكان جماعة لو قتلوا جماعة قتلوا بهم، كذلك الجماعة لو قتلت واحداً قتلوا به، ويدلُّ على ذلك قوله كتبنا ومعناه أوجبنا وحكمنا فعلمنا أن المراد به الحكم، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية> فعم ولم يخص، فوجب هذا الحكم في من قتل واحداً كان القاتل أو جماعة، وروي عن عمر أنَّه قتل جماعة بواحدٍ، وقال: لو .... عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، وروي نحو ذلك عن علي عليه السلام وأشتهر ذلك ولم يرو خلافه عن غيرهما إلاَّ رواية عن أبي الزبير، وروي عنه خلاف ذلك أيضاً فقد روي أن جماعة اجتمعوا على قتل واحدٍ فأراد قتلهم به فمنعه معاوية فدل ذلك على ان ما روي عن أبي الزبير من أنَّه لم ير قتل الجماعة بالواحد غير صحيح، وروى زيد بن علي، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: الشاهدين(111/10)


شهدا على آخر بالسرقة فقطعه ثُمَّ رجعا وقالا: أخطأنا، فقال عليه السلام: لو علمتأنكما تعمدتما لقطعتكما به.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا يقتل اثنان بواحد>.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد إذا لميفعل أحدهما ما يستحق به القود رداً على ما كانت العرب تفعله ويفعله الآن غيرهم من أهل الحمية الجاهلية فيمن قتل واحداً؛ لأن أولياء القتل ربما طلبوا قتله وقتل من صحبه وأعانه ولم يباشر القتل، ويدل على ذلك أن النفس لا تتبعض في الإتلاف فوجب أن يقتل كل واحد منهم؛ لأنَّه قاتل نفسٍ دليله لو انفرد.
فإن قيل: القصاص هو المساواة والمماثلة والنفس الواحدة غير مساوية للجماعة.
قيل له: ليس معنى القصاص هو استيفاء مقادير أجزاء المقتول من القاتل بدلالة أن الكبي مقتولٌ بالصغير وإنما هو إتلاف ونفس القاتل بالمقتول فيجب أن يتلف نفسه، ونكتة الباب أن كل واحدٍ منهم قاتلٌ تلك النفس؛ لأن النفس لا تتبعض في الإتلاف، فأما ما ذهب إليه الناصر فلا معنى له؛ لأنَّه أوجب قتل واحدٍ منهم ولا شك أن قتله واجبٌ بجنايته فكيف يجوز أن يستحق القتل بجنايته، ومن شاركه فيها لا يستحق فصار قوله بعيداً فاسداً، ويقال: أنَّه إذا جاز قتل واحدٍ منهم لقتله النفس، فكذلك الباقون لقتلكل واحد منهمالنفس، وأما إيجاب الديات في العامدين بعدد القاتلين فقد مضى القول فيه ويمكن أن يستدل عليه بقوله عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ..} الآية، فكما أن خمسة لو اجتمعوا على قتل خمسة لم كل واحد منهم دية، فكذلك لو اجتمعوا على قتل واحدٍ لزم كل واحدٍ منهم دية على ما رتبناه وبيناه في الإقتصاص من الجماعة لواحد، وأما في الخطأ فلا خلاف أن الدية الواحدة هي الواجبة يشتركون فيها.
مسألة(111/11)


وكل من قتل أو جرح عمداً فولي الدم بالخيار إن شاء طالب بالقود وإن شاء طالب بالدية وإن تصالحا على شيء دون الدية أو فوقها أو تراضيا به كان ذلك جائزاً وما ذهبنا إليه في الخيار به قال الشافعي وقال أبو حنيفة: ليس لولي الدم إلاَّ القصاص أو العفوا ولا سبيل له إلى الدية، ألا يرضى القاتل ورتب أصحاب الشافعي قوله على وجهين أحدهما ما ذكرناه، والثاني أن الواجب هو القود، ثُمَّ ننتقل إلى المال بالعفوا عن القود واختيار المال، والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <في النفس مائة من الإبل والألف واللام إذا لم يكونا للعهد كانا لجنس فكأنه قال في كل نفس مائة من الإبل، وذلك يتناول العمد والخطأ، ووجوب القود قد ثبت بالإجماع، وبقوله: {كُتِبَ عَلِيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <العمد قود> وكان الواجب أن تثبتا جميعاً على طريق الجمع، لكن أجمع المسلمون على خلاف ذلك فأثبتناهما على طريق التخيير، ويدل على ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: <من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا أخذوا الدية وإن أحبوا قتلوا> وهذا نص فيما ذهبنا إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل الخيار في ذلك إلى ولي الدم، وروي أيضاً عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <من أصيب بقتل أو خبل فأهله بخيار إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يعفوا وإما أن يأخذ الدية> ساوى بني القتل والخبل الجراح، فدل على ما ذهبنا إليه في القتل والجراح جميعاً نصاً، ويدل على ذلك قول الله عز وجل بعد ذكر القصاص وإيجابه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ..} الآية فعين أن بعد العفوا مالاً يجب وذلك الدية بعد العفوا عن القصاص وهو نص ما ذهبنا إليه وقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيْفٌ مِنَ رَبِّكُمْ} معناه على ما روي أن بني إسرائيل لم يكن(111/12)


فيهم إلاَّ القصاص فسهل الله على هذه الأمة بما شرع لهم من العدول عن القصاص إلى الدية.
فإن قيل: العفوا في اللغة يستعمل في التسهيل والتخفيف كما قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ} ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <وآخر الوقت عفو الله> وإذا كان ذلك كذلك فالمراد بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٍ} أي عفي القاتل وسهل وسمح ببذل الدية.
قيل له: هذا وإن كان مستعملاً في اللغة فهو ضرب من التوسع؛ لأن الحقيقة في العفوا إنَّما هو إسقاط حق قد وجب وذلك لا يصح متى حمل على الحقيقة في القصاص على ما بيناه، وروي عن ابن عباس، قال: لم يكن في بني إسرايل غير القصاص ولم تكن فيهم الدية، قال ابن عباس: فالعفوا أن يقبل الولي الدية في العمد {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ بِإِحْسَانِ} قال: عليه: أن يتبع بالمعروف وعلى هذا أن يؤدي بإحسان فقد صرح أن العفوا من قبل ولي الدم على ما يقتضيه العرف واللغة دون ما به عنه الخصم من أن العفوا من القاتل بأن يبذل الدية ويسمح بها ويوضح ما ذهبنا إليه قول الله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٍ} ولم يقل الكل، فدل على أن العفوا تناول بعض ما وجب فبان بذلك أن القصاص والدية كانا واجبين على طريق التخيير، فلما عفي عن شيء منه، والمراد عن بعض منه وهو القصاص طالب بالحق الآخر.
فإن قيل: قد ثبت أن للنفس يستحقه عليه بمثل ما اعتدي عليكم.
قيل له: هذا يدل على وجوب القصاص ونحن لا نأبى ذلك بل نقول به، لكنه لا يمنع وجوب الدية مع طريق التخيير إذا دلت الدلالة عليه، وقد أقمنا عليه الدلالة فما ننكر منه.
فإن قيل: لا خلاف أن من استهلك ماله كان المثل هو الواجب دون القيمة، فوجب أن يكون المستحق بالقتل هو القود لا غير وأن لا ننتقل إلى القيمة إلاَّ بالتراضي.(111/13)


قيل له: هذا فاسدٌ بالإجماع؛ لأن النفس ليست من ذوات الأمثال دليله أن من غصب عبداً فتلف على يده ليس يلزمه مثله، وإنما يلزمه قيمته، وأيضاً لو كان المستحق بالقتل هو القود كما نقول في ذوات الأمثال فوجب أن يستوي فيه العمد والخطأ؛ لأن من استهلك لغيره من ذات الأمثال فالواجب مثله سوى استهلكه عمداً أو خطأ وأيضاً لو روعي فيه ما يراعي في ذوات الأمثال لوجب أن تراعى فيه صفات المقتول والمأخوذ قوداً كالصغر والكبر والحسن والقبح والطول والقصر وما جرى مجرى ذلك، فلما لم يراعى فيه شيء من ذلك علم بطلان ما ذهبوا إليه من حديث المثل وما يجب فيه على أنا قد بينا أن وجوب القصاص فيه كوجوب الدية فلا وجه لهذا القول وهو قول من قال أن الرجوع إلى الدية هو يرضى القاتل.
فإن فيل: فقد روي في بعض الأخبار إما أن يقتل وإما أن يفادي والمفادى يكون بين الاثنين.
قيل له: نحن لا ننكر ذلك ومعناه الصلح وعندنا أنَّه إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن شاء رضي بالمفاداة وهي المصالحة على القليل أو الكثير فكل واحد من ذلك يثبت مما ورد من الشرع به على أنَّه لا خلاف أن دخول العفوا في بعض الدم ينقل الباقي إلى الدية من غير اعتبار مراضات القاتل، فدل ذلك على أن سقوط القود يوجب العدول إلى الدية يبين ذلك أن الأمة والجائفة لما لم يصح فيهما القود كان الواجب هو الدية، وكذلك إذا قتل الأب ابنه وعلى مذهبنا إذا قتل المسلم الكافر واحلر العبد فإما الصلح بما قل أو كثر فلا خلاف في صحته بين المسلمين عن عمد وقع أو خطأ وقد دل على ذلك في العمد ما روي إما أن يقتل وإما أن يفادي، والمراد به الصلح وأمر التغليظ عندنا أيضاً محول على التراضي والمصالحة.
مسألة(111/14)

15 / 122
ع
En
A+
A-