قال: ولو أن رجلاً وقع من سطح أو ما أشبهه على رجل فمات الرجل وكان في شارع او مسجد أو ما أشبهه ضمن الساقط ديته وذلك إذا كان السقوط بفعل من جهة الساقط؛ لأن سقوطه لو كان بفعل غيره كانت الدية على المسقط كما نص فيما مضى على من أوقع غيره على ثوب فانحر وأن الضمان على الموقع؛ لأن الساقط يكون كالآلة من الحجر ونحوه فبان أن الساقط يضمن الدية إذا كان السقوط بفعله به أو بسبب هو فعله وإنما اشترط ان يكون ذلك في مسجد أو شارع؛ لأنَّه لو كان سقط في ملكه لم يكن متعدياً في السقوط وإنما يكون متعدياً إذا سقط في غير ملكه.
قال: فإن ماتا جميعاً ضمن الساقط دية من سقط عليه وتطلب دية الساقط؛ لأنَّه لا جناية لمن سقط عليه في إتلاف الساقط وإنما الساقط هو المتلف له.(110/76)
باب القول في القصاص
أيما رجل بالغ قتل حراً مسلماً بالغاً كان المقتول أو غير بالغ على غير جهة الاستحقاق لزمه القود، وهذا ما لا خلاف فيه، والأصل فيه قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِيْ الْقَتْلَى} وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقصَاصِ حَيَاةٌ} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيْهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} قال: وكذكل من طقعله عضواً من المفصل أو فقأ له عيناً اقتص منه له، وكذلك إن جرحه جراحة يمكن أن يعرف مقدارها في طولها أو عرضها وذهابها في الجسد اقتص له منه، فإن لم يمكن الإحاطة بها لم يقتص، وهذا أيضاً لا خلاف فيه؛ وذلك لقوله عز وجل:{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفِ بِالأَنْفِ..} الآية.
وأما السنن الواردة في القصاص ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوم فتح مكة، فقال: <ألا ومن قتل قتيلاً فوليته بخير النظرين بين أن يقتص وبين أن يأخذ الدية، ورى ذلك غيره أيضاً بألفاظ مختلفة، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يحل دم ارمء مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث> وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <العمد قود إلاَّ أن يعفوا ولي الدم المقتول> ويدل على ذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا..} وفي رواية زيد بن علي يرفعه أن علياً عليه السلام قال في شاهدين شهدا على رجل بالسرقة فقطع يده ثُمَّ جاء فقال: يا أمير المؤمنين، غلنا فالزمهما الدية، وقال: لو علمت أنكما تعمدتما قطع يده لقطعت أيديهكما، فدل على أن اليد تقطع قصاصاً، وكذلك كل طرف يمكن قطعه، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يستقاد في الجرح أن يكون مما يمكن الإحاطة بمقدارها يكون القصاص واقعاً على التحقيق؛ لأن القصاص من حكمه أن يقع موقع جرح المقتص له، فإذا لم يمكن الإحاطة لم يصح القصاص وإذا لم يصح لم يجب ولم يجز.
مسألة(111/1)
قال: ولا قصاص في المنقلة ولا الهاشمة ولا الاَّمة ولا الجائفة وهذا مملا خلاف فيه؛ لأنَّه لا يمكن ضبط هذه الجراحات؛ لأن المنقلة والهاشمة والامة لا يصح القصاص فيها إلاَّ بكسر العظام، ولا يمكن أن تكسر على مقدار معلوم وحد وحدود، وكذلك الجائفة لا يمكن فيها التقدير الصحيح، فلذلك سقط في جميع ذلك القصاص؛ لأنها توضح عن العظم ولا تؤثر فيه، فمقدارها معلوم ودها مضبوط، وقد ذكر ذلك عن كثير من العلماء ولم يختلفوا أنالقصاص منها واجب، وأما ما دونها فالأقرب أن القصاص يتعذر فيه فإن أمكن جاز والله أعلم، قال: وكذلك أن كسر العظم أو قطع لا من المفصل بل من وسط العظم كنحو الزند أو قصبة الساق فلا قصاص فيه، وهذا أيضاً مملا لا خلاف فيه، وذلك لتعذر ضبط مقاديرها على حقائقها على مابيناه.
مسألة
قال: وإذا قتل الحر عبداً لم يقتل به، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وأصحابه يقتل به، والدليل على ما قلناه قوله عز وجل: الحر بالحر ودخول الألف واللام في الحر على الجنس فكأنه عز وجل قال: كل الحر يقتل بالحر فلم يجز أن يكون حر يقتل بعبد؛ لأن تقديره أن الأحرار كلهم يقتلون بالأحرار والوجه الثاني أن العبد لو كان بمنزلة الحر في باب القصاص لم يكن لهذا التخصيص فائدة كما لا فائدة في أن يقال أهل الحجار بأهل الحجار وأهل الشاهل بأهل الشام وأهل العراق بأهل العراق، وإذا ثبت أن الحجازي والشامي والعراقي في القصاص واحد فدل ذلك على أن الحر والعبد لا يجريان في القصاص مجرى واحد، وأيضاً لا خلاف أن طرف الحر لا يؤخذ بطرف العبد فوجب أن لا يؤخذ بنفسه، وكذلك القول في المستأمن، وروي عن جابر فيما أظن من السنة إلاَّ يقتل حرٌ بعبد.
فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {النَّفْسُ بِالنَّفْسِ}.
قيل له: ذلك مخصوص بما قدمناه.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمون تتكافئ دماؤهم>.(111/2)
قيل له: يحتمل أن يكون المراد في الحرمة وتعظيم سفكه؛ إذ لا تكافؤ بالإجماع من جهة الدية فإن العبيد تختلف دياتهم على مقادير قيمتهم والمرأة ديتها على النصف، فجاز أن لا تتكافأ في القصاص، وإن يكون المراد ما قلناه، وأيضاً لا خلاف أن دم الأب والابن لا يتكافأن في القصاص وإن تكافئا في الدية.
فإن قيل: فقد روي: <من قتل عبده قتلناه ومن جدع أنف عبده جدعناه>.
قيل له: هذا الظاهر لا دليل لكم فيه؛ وذلك أنَّه لا لاف بيننا وبينكم أن السيد لا يقتل بعبده وأنه لا قصاص بين العبيد والأحرار في الأطراق وإذا لم يدل ظاهره على موضع الخلاف كان تأويله عندنا أن نقتله على وجه السعي في الأرض بالفساد والمحاربة فيقتل عندنا حداً لا قصاصاً، وإذا لم يختلف أن السيد لا يقتل بعبده جب أن لا يقتل بعبد غيره؛ والعلة أنَّه ليس بمالٍ فلا يجب أن يقتل بما هو مال وقياس على البيهمة أيضاً، وأيضاً قد ثبت أنَّه لا يحد إن قذف العبد، فكذلك لا تقبل إن قتله على أن العبد أنقص حالاً من الحر في عامة الأحوال فوجب أن يكون كذلك في القصاص والله أعلم، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقتل به، والدليل على صحة قولنا ما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يقتل مسلم بكافر> وهو عام في جميع الكفار.
فإن قيل: فقد روي معه ولا ذو عهد في عهد فكان تقديره لا يقتل مسلم بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهد بكافر فلا بد فيه من ضمير وإذا ان كذلك فالمراد به المستأمن.(111/3)
قيل له: أول ما في هذا أن اللفظة الأولى قد رديت منفردة عن اللفظة الثانية وذلك يقتضي عمومها في الكفار أجمع على أن اللفظة معنى أجرى أمرها على الظاهر ولم يثبت فيها ضميرٌ لم يدل على ما قلتم وذلك أن التقدير فيه إذا كان على ما قلناه كأنه قال: لا يقتل مسلم بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهد فيكون الكلام قد دل على أن المسلم لا يقتل بكافر وأن العهد يحقن دم ذي العهد فلا يقتل مع عهده كما يقتل من لا عهد له، هذا هو ظاهر اللفظتين ولابد على الأقوال كلها من إثبات الضمير الأول وهو القتل وما قالوه لا يتم إلاَّ بإثبات ضمير ثاني وهو أن يقدر ولا وعهد في عهده بكافر وهذا الضمير الثاني لا يفتقر الكلام إليه وليس فه ما يدل عليه فيجري مجرى إثبات لفظ لا دليل عليه؛ لأن الضمير بمنزلة اللفظ ومتى كان ذلك كذلك سقط حكم هذا الضمير وإذا سقط حكمه بطل ما تعلقوا به وصح ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: اللفظ الأول المراد به هو القصاص والضمير الذي أثبتموه هو قتل ليس بقصاص وليس هذا حكم الضمير؛ لأن الضمير يجب أن يرجع إلى المنطوق به ليصح كونه ضميراً ومتى كان ذلك كذلك وجب فيجب أن يكون تقدير الكلام لا يقتص من مسلم لكافر ولا يقتص من ذي عهد في عهده فيجب لا محالة إثبات ضمير آخر حتى يكون تقديره ولا يقتص من ذي عهد في عهده لكافر.(111/4)