قيل له: هذا حديث ضعيف ما نعرف صحته ولا تلقته العلماء بالقبول ولا رجعوا إليه على أنَّه إن صح فليس في ظاهره ما يدل على موضع الخلاف؛ لأن ظاهره إلزام الدية المستقاد وهو الذي تولى أخذ القود والخلاف في المستقاد له وهو المستحق للقود أنَّه يلزم الدية أولاً والمستوفي يكون اجنبياً يستوفيه بإذن المستحق وإذن الإمام، وإذا ثبت ما قلنا به احتيج له إلى تأويل، فكان تأويله والله أعلم أن المستوفي إن كان منه خطأ في استيفاء اكثر مما وجب فمات فعليه الدية.
فإن قيل: الجراحات معتبرة بما تؤول إليه وسيقط معها حكم الابتداء بدلالة أنها إذا سرت إلى النفس وجب القود.
قيل له: هذا يكون إذا كان الجراحة مضمومة، فأما إذا كانت غير مضمونة فلا تعتبر فيها السراية بدلالة سائر ما قدمناه من قطع يد السارق أو جرح الباغي وما أشبهه.
فإن قيل: اليد المقطوعة مأخوذة على وجه البدل من يد المقتص له والأبدال مضمونة، فوجب أن تكون يده مضمونة، فإذا كانت مضمونة كانت السراية مضمونة.
قيل له: قد بينا أن قولكم أن يده مضمونة عبارة فارغة على أن الردع والزجر كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وما كان كذلك لم يجب أن تكون مضمونة ولم تجر مجرى الأبدال التي تجري للمعاوضات.
مسألة(110/71)
قال: ولو أن شيخاً حامع امرأته فلكزته أو ضمته ضماً شديداً أو ما أشبه ذلك فقتلته لزمها ديته؛ وذلك أنها قتلته خطأ فوجب ديته عليها، كما يجب على المخطئ في سائر المواضع، قال يحيى بن الحسين عليه السلام: وبلغنا نحو ذلك عن علي عليه السلام أنَّه قضى بديته عليها، فكذلك لو أن معلماً ضرب صبياً أو فزعه فمات ضمن ديته، وهذا عندي والله أعلم محمول على أنَّه إذا تجاوز به المتعاد الذي يستحسنه المسلمون في مثله ويكون هو في حكم المأذون له فيه، فإاذ تجاوز ذلك كان متعدياً فتلزمه الدية وإن لم يتجاوز ذلك فيجب أن لا يلزمه شيء والهل أعلم، قال: ولو أن رجلاً أفزع امرأة حاملاً فألقت ما في بطنها ضمنه المفزع؛ للوجه الذي بيناه قبل هذه المسألة، ولما روي أن عمر أرسل إلى امرأة بلغه عنها امرء فألقت حملها فزعاً من عمر وإرساله فاستشار فيه، فقيل له لا شيء عليك، فقال علي عليه السلام: إن كانوا جهلوا فقد أخطأوا وإن كانوا عرفوا فقد غشوك فالزمه الضمان فالتزمه عمر ولم ينكره أحد.
مسألة(110/72)
قال: ولو أن رجلاً عض يد رجل ظالماً فانتزع المعضوض يده من فيه فقلع شيئاً من أسنانه فلا شيء عليه لا دية ولا قود، وحكي عن ابن أبي ليلى أنَّه يضمن ولم يبلغني عن غيره فيه خلاف،ووجهه أنَّه مأذون له في دفع الظلم عن نفسه ولو بقتل الظالم؛ إذ لم يمكن سواه، وليس قلع أسنانه بأعظم من قتله ولو لم يمكن تخليص يده من فيه إلاَّ بقتله لم يلزمه في قتله شيء، فكذلك في قلع أسنانه، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سئل عن ذلك فقال: <أيدع يده في فيك تقضمها كأنها في فم فحل> ولم يقض فيه بشيء، وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن رجلاً عض يد رجل فانتزع يده من فيه فسقطت ثنياه، فلم يجعل عليه شيئاً، وقال: أتترك يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحلن فكل ذلك دل على أنَّه هدرٌ، قال: ولو أن رجلاً راود امرأة عن نفسها حراماً فلم تجد إلى دفعه سبيلاً إلاَّ قتله فقتلته دفعاً له عن نفسها فال دية له ولا قود، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن الواجب عليها أن تمتنع وتدفعه عن نفسها بكل ما أمكنها وإن بلغ ذلك جرحه أو قتله فإذا قتلته فلا شيء عليها.
مسألة(110/73)
قال: ولو أن رجلاً استحفر بئراً في ملكه فحفر له ثُمَّ عنت فيه عانت فلا ضمان على المستحفر ولا الحافر، ووجهه إن عنت من عنت فيها ليس بفعل للمستحفر ولا الحافر ولا كان منهما تعدٍ في سببه وهو الحفر؛ الحفر وقع في ملك المستحفر فلا وجه لتضمين واحد منهما، وهذا مملا لا خلاف فيه، قال: فإن استحفره في شيء من طريق المسلمين فعن فيه عانت ضمنه الحافر دون المستحفر، ووجهه أن الحافر تعدى في الحفر وهو سبب الوقوع فيه فيجب أن يضمنه؛ لأنَّه لم يكن له أن يحفر في طريق المسلمين، وأما المستحفر فلا شيء عليه؛ لأنَّه لم يكن منه إلاَّ الأمر المجرد، فلم يجب أن يضمن، قال: فإن كان الحافر عبداً كانت جنايته في رقبته كسائر جناياته في أنها في رقبته، فإن شاء مولاه فداه، وإن شاء سلمه كما نقول في سائر الجنايات، وهذا إذا كان العبد مأذوناً له في أن يؤاجر نفسه، قال: إلاَّ أنَّه إن كان مأذوناً له في أن يؤاجر نفسه لم يرجع سيده على المستحفر بشيء؛ لأنَّه غير غاصب له فلا شيء عليه.
قال: فإن كان محجوراً عليه رجع مولاه بما لزمه ما لم يتجاوز بقيمته، فإن تجاوزها لم يرجع بالزيادة؛ وذلك أن المستحفر يكون غاصباً فيجب أن يكون ضامناً له ولجنايته إلى قيمته؛ لأن ذلك حكم الغصب، وكذلك للعبد لو مات ي ذلك العمل يضمنه كما يضمن الغاصب.
مسألة(110/74)
قال: ولو أن رجلاً استعان بصبي حر أو مملوك بغير إذن أوليائهما فعنت ضمنه المستعين به؛ وذلك أنَّه ي حكم الغاصب لهما؛ لأن تصريفه لهما على أمره غصب لهما فيجب أن يضمنها إذا عنتا فيه، وبمثل قولنا قال أبو حنيفة وأصحابه أن العبد لا يغصب إلاَّ باستعماله وتصريفه على الأمر والنهي بغير إذن صاحبه، فكذلك قلنا أنَّه متى استعلمه بغير إذن صاحبه كان غاصباً ويضمنه كما يضمن الغاصب. وفصل أبو حنيفة بين الحر الصغير وبين العبد ي باب الضمان بأنقال: إن من غصب الصبي الحر يضمن تلفه إلاَّ أن يتلف بأمر سماوي والعبد مضمون التلف بأي وجه كان، وذكر أيضاً أنَّه يضمن جنايات العبد إلى قيمته ولا يضمن جناية الصبي.
مسألة
قال: ولو أن سفينتين تصادمتا فغرقتا ضمن أصحاب كل واحدة منهما ما تلف في الأخرى يعني بالأصحاب المجري له القائم بأمر مسيره من الملاح وصاحب المحراق دون الالك والراكب فلا فعل لهما إلاَّ أن يعملاهما مع الملاحين فيدخلا في الضمان وعلى ما مضى القول في متجاذبي الحبل يجب أن يكون أصحاب كل واحدة منهما يضمنون نصف ما في السفينة الأخرى ونصف ما في هذه على ما قلناه فيما تقدم؛ لأن التصادم منهم وقع بإجمعهم فكان كل واحد منهم كان له فعل في كسر كل واحدة منهما، قال: وإن كانت إحداهما هي الصادمة ضمن أصحابها المصدومة وذلك أن الجناية من جهة أصحاب الصادمة فلزمهم الضمان دون أصحاب المصدومة؛ وذلك أن الجناية من جهة أصحاب الصادمة فلزمهم الضمان دون أصحاب المصدومة التي لا جناية لها.
مسألة(110/75)