قال: ولو أن صاحب الزرع عدى على الدابة فقتلها أو جرحها أو قطع منها عضواً ضمن ما فعل من ذلك ليلاً كان او نهاراً، ووجهه أنَّه في جميع ذلك متعد، فيجب أن يضمنه كمايضمن إذا جنى على سائر أموال الناس واستهلكها، وهذا مالا خلاف فيه.
مسألة
قال: فإن أخذها ليلاً وحبسها فتلفت بأي وجه كان من التلف ليلة تلك لم يضمنها إذا لم يكن تلفها بجناية منه فإن حبسها بعد ليلته تلك فتلفت ضمنها.
اعلم أنَّه يكون كذلك إذا أخذها حفظاً لها على صاحبها ليردها عليه، فإذا أخذها على هذا الوجه يكون بمنزلة الملتقط والأخذ للضالة في أنَّه لا يضمنها إذا تلفت بغير جنايته إلى حين إمان ردها على صاحبها، فأما إن أخذها على سبيل الغصب فإنه يكون ضامناً لها كما يضمن المغصوب؛ لأنَّه لا يخلو أخذها من أن يكون لصاحبها أو لنفسه، فإن كان أخذها لصاحبها فهي بمنزلة الضالة، وإن أخذها نفسه يكون غاصباً وتحديده تلك الليلة؛ لأن الغالب أنَّه لا يمكن ردها حتى يصبح وأنه إذا أصبح أمكن ذلك، فأما إن أمكن ردها تلكالليلة فإنه يكون بحبسها غاصباً ويضمن وإن لم يمكن ردها إذا أصبح لم يكن بإمساكها غاصباً ولم يضمن ونكتة الباب ما ذكرنا.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً رفع آخر على ثوب فانخرق ضمنه الدافع دون المدفوع إلاَّ أن يكون فيه للمدفوع جناية، ووجهه أن المدفوع بمنزلة الآلة، فكان الدافع ألقى عليه حجراً ونحوه حتى خرقه؛ لأن المدفوع يجري مجرى الحجر في ذلك، إلاَّ أن يكون منهجناية أيضاً فيه، كأن يرسل نفسه أو يعتمد عليه أو يتحرك حركة تؤثر يذلك فيضمن بقدر ذلك.
مسألة(110/66)


قال القاسم عليه السلام: لو أن رجلاً أشعل النار في زرع له فيأرضه فتعدت النار إلى زرع غيره لم يضمن، ووجهه أن الإحراق ليس بفعل له وإنما فعله وضع النار في الزرع وهو لم يكن متعدياً ي وضع النار الذي كان سبباً للإحراق فلم يجب أن يضمنه كما أن رجلاً لو وضع حجراً في داره أو حفر بئر فيملكه فعثر بالحجر عاثر أو وقع في البئر واقع لم يضمن؛ لأن العثار بالحجر لم يكن فعله ولا الوقوع في البئر ولم يكن هو متعدياً في سببا الذي هو وضع الحجر وحفر البئر؛ ولأن الإنسان إنَّما يضمن فعله إذا تعدى فيه أو يضمن فعل غيره إذا تعدى في سببه، ولسنا نريد بالسبب ما يريده المتكلم؛ لأنَّه لا يجوز أن يكون المسبب فعلاً لغير فاعل السبب إذا أريد به التحقيق وإنما يستعمل ذكر السبب على طريقة الفقهاء.
فإن قيل: أليس الإنسان يرمي صيداً فيصيب إنساناً فيضمنه وهو غير متعدٍ في الرمي فما الفرق بين هذا وبين ما ذكرتم.
قيل له: الفقر بينهما أن الإصابة فعله كما أن الرمي فعله فهو إنَّما يضمن الإصابة التي هي فعله وهو يها متعدٍ، وليس كذلك الأحراق؛ لأنَّه ليس بفعل له وإنما فعله هو وضع النار في الزرع كما بيناه، فإن تعدى في وضع النار بأوضعها في أرض غيره ضمن جميع ما احترق بها؛ لأنَّه متعدٍ في السبب كما أن من وضع حجرا أو حفر بئراً في شارع من شوارع المسلمين ضمن ما يحدث من العثار به والوقوع فيها.
مسألة(110/67)


قال: وإذا عنت المتطبب والحجاج والمجبر ضمنوا إذا لم يكونوا تبروا وإن كانوا تبروا لم يضمنوا إلاَّ إذا لم يكونوا من أهل البصر فيما اقتحموه، وذلك أن تلك الجنايات جنايات أيديهم، فيجب أن يضمنوها؛ لأن أفعالهم مضمونة، إلاَّ أن يكونوا قد تبروا، وذلك أن الإبراء منها يصح، الا ترى أن من شج غيره يصح منه ابراؤه من الضج ومما يتولد عنه؛ ولأن إبراؤه يجري مجرى الأذن لهم فيما يتفق منهم، والله أعلم، قال: إلاَّ أن يكونوا غير عالمين بالصنعة، وذلك أن إبراؤم إنَّما كان بشرط أن يجتهدوا مع العلم بذلك، فإذا لم يكونوا من أهل البصر كانوا قد غروا فيجب أن يضمنوا كما يضمن سائر من تعدى.
مسألة(110/68)


قال: وإذا وقع الحدار على طريق من طرق المسلمين فعنت تحته عانت ضمن صاحب الجدار إن كان قد علم قبل ذلك بفساده وتركه على ذلك وإن لم يكن علم ذلك قبل أن يقع فلا ضمان عليه، لا خلاف أنَّه يضمن ما تلف بسقوط الجار عليه من نفس أو عضو أو مال وإنما اختلفوا فيه متى يكون ضامناً، فقال أبو حنيفة لا يضمن حتى يتقدم إليه برفعه وإصلاحه، وسواء تقدم إليه به الحاكم وأخذ ممن له فيه حق الاستطرا، فإذا كان ذلك وتركه مع إمكان الإصلاح صار ضامنا، قال: ويشهد عليه والأشهاد إنَّما هو لخوف التجاحد، فأما وجوب الضمان فيما بينه وبين الله عز وجل فيكفي أن يقتدم إليه، وحكى ابن أبي هريرة نحو ذلك عن مالك، وقال ابن أبي هريرة هو ضامن على كل حال؛ لأنَّه متعدٍ فإنه حكاه عن الشافعي واشترط أصحابنا أن يكون قد علم بذلك، وذلك أن ميلانه إلى الطريق ليس بفعل له ولا تعدى في فعل سببه؛ لأنَّه إن كان بناه فلم يتعد في بنائه، وإن كان ملكه قائماً فلم يتعد في تملكه فيجب أن لا يضمن متى سقط من غير أن يعلم ميلانه ويتمكن من رفعه وإصلاحه، ألا ترى أن الريح لو أسقطته وهو منتصبٌ غير مايل لم يضمنه، فكذلك إذا مال ولم يعلم به؛ لأن الميل يحصل عند إسقاط إياه أولاً ثُمَّ يسقط، ولكن لا يضمنه إذا لم يعلم ولم يتمكن، فأما إذا علم أو تمكن ثُمَّ ترك على تلك الحال فإنما يكون متعدياً بتركه على تلك الحال، فلذلك يكون ضامناً، فإن قيل: لم قلتم أنَّه يكون متعدياً ذا لم يتقدم إليه بذلك.
قيل له: لأن الحرام إذا علم وجب عليه التقدم بإزالته دفعاً للأذى عن طريق المسلم طريق المسلمين، فإن أبى إكرهه عليه أو فعله بغيره، فلولا أنَّه واجبٌ لم يحسن للحاكم أن يفعل ذلك، وإذا ثبت أن الحاكم يحسن منه، بل يجب إكراهه عليه، ثبت أنَّه واجبٌ عليه؛ لأن الحاكم لا يجوز أن يكره أحداً إلاَّ على ما هو واجبٌ عليه.
فإن قيل: فما أنكرتم أن يصير واجباً عليه بأمر الحاكم له.(110/69)


قيل له: ولو لم يكن واجباً عليه قبل الأمر لم يحسن الأمر به على طريق الإيجاب، وأيضاً روي لا يكون الرجل مؤمناً حتى يأمن جاره بوائقه، وهذا من بوائقه فيجب عليه أن يأمن جاره منها، فأما أن مال على ملكه فلا يضمن شيئاً من ذلك إن سقط؛ لأنَّه غير متعدٍ فيه، ومما يدل على تعديه متى علم بميلانه على الطريق وتركه أنَّه يكون قد شغل بميلانه هوي مالا يملكه من الطريق، فمتى تركه على ذلك كان متعدياً؛ لأنَّه ليس له أن يدع ملكه لشغل ملك غيره؛ لأنَّه إذ ذاك يجري مجرى فعله.
مسألة
قال: وم اقتص منه بحق فمات فلا قود له ولا دية، وبه قال أبو يوسف ومحمد قال أبو حنيفة: تلزم ديته المقتص له، ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه استوفا منه ما استوفا بحق ولم يكن فيه تعدٍ فوجب أن تكون سرايته غير مضمون دليله من أقيم عليه الحد فمات وأيضاً إذا جرح أهل العدل أهل المبغي فمات منه الباغي لم تكن له دية ولا قود؛ والعلة أن جراحته لم تكن مضمونة فوجب أن تكون سرايتها غير مضمونة، وكذلك الدافع عن نفسه وماله إذا جرح الطالب الطالب له ظلماً فمات منه لما بيناه لم تكن عليه.
فإن قيل: لسنا نسلم أن جراحته غير مظمونة؛ لأنا مستوفاه على وجه البدل.
قيل له: هذه عبارة فارغة مساحتكم فيها مملا لا فائدة فيها؛ وذلك أن معنى قولنا: أن جراحته غير مضمونة أن المجروح لا يستحق على الجارح فيها لا القصاص ولا الأرش فلو تركنا ذكر الضمان وقلنا لما كانت جراحته لا يستحق بها الأرش ولا القود وجب أن تكون السراية كذلك دليله سائر ما ذكرنا لاتسق الكلام.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <من استقاد من أحد ثُمَّ مات المستقاد منه غرم المستقاد ديته>.(110/70)

11 / 122
ع
En
A+
A-