قال: وكذلك إن أخرج من جذره شيئاً إلى طريق من طرق المسلمين أو حفر فيه بئراً أو أحدث فيه فعنت فيه عانتٌ أو تلف تالفٌ لزمته ديته ووجهه ما مضى من كونه متعدياً فيما فعل من ذلك، فوجب أن يضمن جميع ما يلحق الإنسان من دية إن تلف أو أرش إن انكسر، فأما أن فعل ما فعل من ملكه فعنت فيه عانت أو تلف تالف فلا ضمان عليه، وذلك لا خلاف فيه؛ لأنَّه غير متعدٍ بإحداث ما أحدث في ملكه، فأما إذا لم يتعد فيه فيجب أن لا يكون عليه ضمان، وعلى هذا إن حفر في طريق من طرق المسلمين أو أحدث فيه حدثاً لمصالح الناس بإذن الإمام فيجب أن لا يضمن ما يحصل فيهمن عنت أو تلف؛ لأنَّه إذا فعل ذلك بإذن الإمام لم يكن متعدياً فيجب أن لا يضمن.
مسألة(110/61)
قال: وكذلك من وقف دابته في ريق من طرق المسلمين فصاحبها ضامن لما أحدث بيديا أو رجليها، ووجهه أن الطريق إنَّما هو للإستطراق، فإذا وقف فيه داية مربوطة أو غير مربوطة كان متعدياً فيما فعل، فيجب أن يضمن ما يكون منها من أي وجه كان بيدها أو رجلها أو صدمها أو عضها أو عثار الإنسان بها؛ لأنَّه بمنزلة من وضع حجراً في طريق أو حفر بئراً، بل واضع الحدر وحافر البئر أحسن حالاً منه؛ لأن الحجر والبئر لا فعل لهما وإنما لعنت الإنسان بفعله عندها والبهيمة لها فعل فقد يعنت الإنسان عندها بأن تعثر بها وقد تحدث هي أيضاً ما يؤدي إلى التلف والإعنات، فيجب أن يحصل لواقفها الضمان وجهين ولم يحصل لحافر، ووضاع الحدجر إلاَّ من جه واحد، فإن زالت الدابة عن مكانها الذي وقفعها فيه صاحبها فلا ضمان فيها يحدثه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: <العجماء جبار> وليس فيه لصاحبها فعل إذا قد خرج عن التعدي بمفارقة الدابة مكانها وصارت متفلتة، وعلى هذا يجب أن يكون الإنسان إن وضع حية أو عقباً في طريق من طرق المسلمين فلسعتا في موضعهما أن يكون الواضع ضامناً لذلك، فإن انسابت الحية أو دبت العقرب عن موضعهما أو غير ذلك الموضع لم لسعتا لم يضمن الواضع، وعلى هذا يجب أن يكون حكم من وضع كلباً أو سبعاً أو غيرهما في طريق من طرق المسلمين أو سوق من أسواقهم فهو ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها.
مسألة(110/62)
قال: وإن ركض دابته في شارع من شوارع المسلمين فصدم بها ضمن ما عنت بصدمه، ووجهه أنَّه ليس له أن يركض في شارع المسلمين إلاَّ على التحفظ أو شرط السلامة؛ لأنَّه كما أن له حقاً فيه لغيره من المستطرقين حق أيضاً فيه، فإذا ركض وصدم كان متعدياً؛ لانه لم يكن له ركضها إلاَّ على شرط السلامة والتحفظ، قال: وإن ركضها في ملكه فصدمت لم يضمن؛ لأنَّه غير متعدٍ إذا كان الركض في ملكه، وإنما يجب التحفظ على الداخل، ألا ترى أن من وضع حجراً في الشارع ضمن ما غطب به، وإذا وضعه في ملكه لم يضمن، فكذلك الركض والصدم.
مسألة(110/63)
قال: والكلب إذا عقر ضمن أهله عقره إذا كانوا قد عرفوا عقره ثُمَّ تركوه وإن لم يكونوا عرفواه فلا ضمان عليهم إلاَّ أن يكونوا أخرجوه وجعلوه فيشارع من شوارع المسلمين، ووجه ما قلناه من ضمان عقر الكلب الذي عرف بالقتل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: <خمس يقتلن في الحل والحرم> وذكر فيها الكلب العقور، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل الكلاب إلاَّ كلب صيد أو كلب ماشية، وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلاب، وقال: <لا يتخذ الكلاب الأصياد أو خائف أو صاحب غنم، وفي بعض الأخبار كلب زرع، فكل ذلك يوجب قتل الكلب العقور، فمن تركه فقد تعدى في تركه، فيجب أن يضمن عقره كما أن من وقف دابته في شارع المسلمين يكون متعدياً فيضمن ما يكون فيها بيدها أو رجلها أو عضها أو صدمها، وإن لم يكن عرف عقره فلا ضمان؛ لأنَّه لا يتعدى ببركة إذا كان ينتفع به على ما بيناه، وقلنا: إلاَّ أن يكون مترك في شارع من شوارع المسلمين يكون سبيله سبيل الدابة وغيرها على ما مضى القول فيه من اعتبار عقره في الموضع الذي أقيم فيه دون أن يتجاوزه، روى محمد بن منصور يرفعه إلى علي عليه السلام أنَّه كان يضمن صاحب الكلب إذا عقر نهاراً ولا يضمنه إذا عقر ليلاً، والوجه في ذلك أنَّه إذا ترك نهاراً يكون صاحبه متعدياً، وروي عنه عليه السلام أنَّه قال: إذا دخلت دار قوم بإذنهم فعقرك كلبهم فهم ضامنون، وإذا دخلت بغير إذنهم فلا ضمان عليهم، ويجوز أن يكون وجهه أنَّه إذا دخل بإذنهم يحصل له حق استطراقها والكون فيها فيجري مجرى أن يعقر في شارع من شوارع والله أعلم، قال: وكذلك القول في غير الكلب إذا عقر ينظر في حال الغير فيجري قياسه على ما قددمنا القول فيه من التعدي وغير التعدي.
مسألة(110/64)
قال: ولو أن دابة فسدت زرع قوم ليلاً ضمن صاحب الدابة لصاحب الزرع ما فسد من زرعه وإن أفسدته نهاراً لم يضمن، وبه قال الشافعي، قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يضمن ليلاً كان ذلك أو نهاراً، والأصل فيه ما روي أنَّه ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فأتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقضى على أن أهل الماشية حفظها بالليل، وعلى أهل الزرع حفظه بالنهار، فلما قضى صلى الله عليه وآله وسلم على صاحب الماشية بحفظها في الليل كان من لم يحفظها وأرسلها متعدياً في رسالة فيجب أن يضمن ما أفسدت من الزرع كما أن من وقف دابته في شارع المسلمين فلا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة أن صاحبها يكون ضامناً لما يكون منها؛ لكونه متعدياً في إرساله، وروى هذا الحديث أبو جعفر الطحاوي فزاد وعلى أهل المواشي ما أفسدت مواشيهم بالليل، وروي أيضاً ما أفسدت المواشي بالليل ضمان على أهلها.
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <العجماء جبار> وهو عام.
قيل له: يكون ذلك جباراً إذا لم يكن من صاحبها تعد في إرسالها لا خلاف فيه، ألا ترى أنَّه إذا دفقها في الشارع لم يكن جباراً، فإذا صح ذلك وكان صاحبها متعدياً بإرسالها ليلاً لم يجب أن يكون ما تفسد ليلاً جباراً، فإن قيس إفسادها ليلاً على إفسادها نهاراً كان ذلك فاسداً، وذلك أن ضمان جنايات البهائم تتعلق بتعدي صاحبها، فيجب أن يراعى متى يكون متعدياً ومتى يخرج عن التعدي، وهذا مملا لا خلاف فيه بإرساله نهاراً غير متعدٍ، فكيف يجوز أن يقاس إفسادها ليلاً على إفسادها نهاراً.
ويمكن تحرير القياس فيه بأن ما يقال لا خلاف أن من وقف دابته في شارع المسلمين يكون ضامناً لما يكون منها في حال إرساله؛ والعلة أن جنايتها وقعت في حال كان صاحبها متعدياً في تركها على تلك الحال.
مسألة(110/65)