والأصل فيه قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ /195/ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ..} الآية، وما رويناه بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اللعان على هذا الحد، ولا أحفظ فيه خلافاً، ويجب أن يبدأ بلعان الزوج؛ لأن الآية دلت على ذلك، ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ}، فعقَّب الرمي بشهادة الزوج، ولأن الخبر كذا ورد، ولأن الزوج قد وجب عليه الحد، فلا بد من إقامته، أو درئه باللعان، فلا يجب ان يتراخى عن وقت الوجوب.
مسألة: [في الرجل ينفي الولد عن زوجته]
قال: ولو أن رجلاً تحته امرأة، فجائت بولد، فنفاه عن نفسه وعن المرأة، فعلى المرأة البينة أنه ولدها، ولدته على فراشه، فإذا أتت بالبينة، ثم نفاه الرجل بعد ذلك عن نفسه، وجب بينهما اللعان.
وهذا منصوص عليه في كتاب الحدود من (المنتخب)(1).
ووجهه أنه إذا نفى أن يكون الولد ولداً له ولها فلم يقذفها، ولم ينف ولداً يجب إلحاقه به، فلم يلزمه اللعان لأن اللعان يجب للقذف أو لنفي مولود له على فراشه، فأما إذا أقامت المرأة البينة على أنها ولدته على فراشه وجب أن يلحق به، فإذا نفاه بعد ذلك لزمه اللعان كما يلزمه لو نفى ولداً يقر بأنه ولد على فراشه لأنه لا فصل بين أن يقر هو بأنه ولد على فراشه وبين أن يثبت ذلك بالبينة.
فإن قيل: أليس من مذهبكم أن إقرار المرأة بالولد جائز كإقرار الرجل فلم ألزمتموها البينة على أنها ولدته؟ قيل له: إنما يجوز ذلك إذا كان إقرارها به لا يلزم غيرها حكماً، فأما إذا كانت تلزم الزوج نسبه بإقرارها فذلك لا يثبت إلا بالبينة.
مسألة: [في قذف الرجل زوجته برجل معين]
__________
(1) انظر المنتخب 421.(60/19)


قال: ولو أن رجلاً قذف زوجته برجل بعينه، فللرجل على زوجها الحد، سواء لاعن الرجل زوجته، أو لم يلاعنها، فإن إدعى المقذوف الولد، لم يثبت نسبه منه بدعواه، ويسقط الحد عن القاذف.
ما ذكرناه أولاً من إيجاب الحد للرجل المقذوف منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)، وما ذكرناه ثانياً من إدعاء المقذوف الولد منصوص عليه في (المنتخب) (3). وقال الشافعي: إذا لاعن الرجل زوجته سقط حد من قذفها به على سبيل التبع.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ..} الآية. ولا خلاف بين المسلمين أن حكم الذكور والإناث من أولي الإحصان إذا قذفوا سواء، فوجب أن يلزم الزوج الحد لقذفه الرجل الذي قذف زوجته به لاعنها أولم يلاعنها.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ..} الآية. ولم يخص من رماها مطلقاً، أو رماها برجل بعينه؟
قيل له: هذه الآية أفادت الحكم بينه وبين زوجته، دون ما بينه وبين الإجانب، فلم يكن فيها دلالة على موضع الخلاف.
فإن قيل: هلال بن أمية حين حين قذف زوجته بشريك بن سحما لم يرو أنه حد له، ولا أن شريكاً أقر بالزنا، ولا حصل عفو فدل ذلك على أن حده سقط تابعاً للعان؟
__________
(1) انظر الأحكام 2/270.
(2) انظر المنتخب 160.
(3) انظر المنتخب 160.(60/20)


قيل له: حد القذف لا يجب حتى يطالب المقذوف به فيجوز أن يكون ترك حده لأن شريكاً لم يطالب به فيكون هذا وجهاً غير الوجه الذي ذكرتم، ويدل على ذلك أنه لا خلاف في أنه لو قذفه مطلقاً أو قذفه بغير زوجته لم يسقط حده باللعان فكذلك إذا قذفه بزوجته، والعلة أنه قذف من ليس بزوجة، أو يقال: لأنه قذف لمن لا لعان بينه وبينه فوضح ما ذهبنا إليه أن اللعان أوجب سقوط الحد عن الزوج لأنه قام مقام البينة على صحة ما ادعاه وقد علمنا أن لعانه لا يقوم مقام البينة على صحة ما ادعاه من قذف الأجنبي، فلم يجب أن يسقط حده بلعانه، ألا ترى أنه لو أقام /196/ البينة في الأجنبي، وجب أن يحد متى لم يأت بما يدرأ عنه الحد كما أنه لو أقام البينة في الزوجة، وجب أن يحد متى لم يأتي بما يدرأ عنها الحد، وعلى أنا وجدنا اللعان حكماً يختص الزوجين فلم يجب أن يكون له تأثير في غيرها كالظهار والإيلاء والطلاق.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ادرأوا الحدود بالشبهات)؟
قيل له: هاهنا لا شبهة فيوجب درأ الحد.
وقلنا: إن المقذوف لو إدعى الولد لم يثبت نسبه منه لأنه يكون مدعياً له من زنى، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقلنا: إن حده يسقط عن القاذف لأنه يكون قد صدقه في قذفه فلا يجب أن يحد له.
مسألة: [في ابن الملاعنة يموت فيُكذب الزوج نفسه]
قال: وإذا لاعن الرجل زوجته، وانتفى ولده، ثم مات الولد، وأقتُسم ميراثه، ثم أكذب الرجل نفسه، وادعى الولد، لم يرجع على الذين اقتسموا ميراثه بشيء، ولو كانت المسألة بحالها، وكان لابن الملاعنة ولداً اعتزى إلى جده، وثبت نسبه منه. وجميعه منصوص عليه في (المنتخب) (1)، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي يثبت نسبه، ويرثه أبوه.
__________
(1) انظر المنتخب 161.(60/21)


ووجه ما ذهبنا إليه: أنه إذا مات، فلا حكم يتعلق بنسبه إلا الإرث؛ لأن إكذاب الرجل نفسه، وإقراره بالولد، لم يتضمن سوى إدعاء المال، وقد ثبت أن الإنسان لا يستحق شيئاً من الأموال بإدعائه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم (لو أُعطي الناس بدعواهم، لادعى قوم دماء قوم وأموالهم).
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن النسب ثبت، ويجب المال تبعاً؟
قيل له: إثبات النسب إنما هو إثبات أحكام، فإذا مات ابن الملاعنة، لم يتعلق بنسبه حكم الإرث، فإذا لم يثبت غيره، لم يصح أن يقال: هو تبع، وإذا لم يصح أن يكون تبعاً لغيره، وكان إستحقاقه لا يثبت بدعوى من يدعيه، كما لا يثبت في سائر المواضع، صح ما ذهبنا إليه، وبطل القول بأنه يرث، يكشف ذلك أن اللقيط لو إدعاه مدع، صُدِّق، ولو إدعاه بعد موته، لم يكن لدعواه حكم، وكذلك من باع غلاماً وُلد عن حمل كان في ملكه، ثم إدعاه وهو حي، انفسخ البيع، وثبت نسبه، وإن إدعاه بعد الموت، لم يكن لدعواه حكم، ولم ينفسخ البيع، فكل ذلك يكشف أن دعواه الميت متى تجددت، كانت باطلة، فوجب أن يبطل مالا يثبت إلا على وجه التبع لها.
فإن قيل: فكيف تقولون إنه لو كان له ولد، ثبت نسبه؟
قيل له: لأن ولده إذا كان حياً يثبت نسبه، ويعلق الحكم عليه.
فإن قيل: ليس البائع للغلام الذي ذكرتم، لو لم يدعه حتى يكبر، ويولد له، ثم يموت، أنه إذا إدعى بعد ذلك ولداً لا يثبت نسبه، فما أنكرتم أن يكون ذلك سبيل ولد ابن الملاعنة؟(60/22)


قيل له: الفرق بينهما ان تثبيت نسب ولد الغلام لا يكون بدعوة مبتدأة، [فإذا مات أبوه لا يصح تثبيت نسبه بدعوى مبتدأة] (1) لأنها لا تثبت إلا بعد تثبيت نسب أبيه بدعوة مبتدأة، وذلك لا سبيل إليه، وليس كذلك حال ولد ابن الملاعنة، لأن نسب أبيه كان ثابتاً بالفراش، وإنما إنتفى باللعان، فإذا أكذب الملاعن نفسه، لم يُحْتَجْ لتثبيت نسبه إلى أمر مبتدأ، فصح أن يثبت بالفراش المتقدم، ثم يثبت نسب أبيه.
مسألة:[في نفي الولد بعد الإقرار به أو السكوت عنه]
قال: فإذا أقر الرجل بولده مرة، أو سكت حين يولد على فراشه، لم يكن له بعد ذلك نفيه. ونص في (الأحكام) (2) على أنه لا إنكار له بعد الإقرار، ونص في (المنتخب) (3) على أنه إن سكت حين يولد على فراشه لم يكن له بعد ذلك إنكاره.
وأما ما قاله في (الأحكام) من أنه إذا أقر به فلا إنكار له بعده، فمما لا خلاف فيه، وسواء ولد على فراش ثابت، أوولد من أمه، أو كان مجهول النسب.
والأصل فيه: ما ثبت أن من أقر بحق لغيره، فليس له /179/ إنكاره بعد ذلك، وسواء ذلك في الأموال والجنايات، وسائر الحقوق، فكذلك إذا أقر بولج لأنه أقر بحق له، فلا إنكار له بعد ذلك.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) انظر الأحكام 2/155 ـ 156، وانظر الأحكام 2،180.
(3) انظر المنتخب 164.(60/23)

9 / 149
ع
En
A+
A-