وفي حديث سهل بن سعد، وكان يدعى الولد لأمه(1).
وهذا مما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف أنه ينتفي باللعان، أو ينتفي بالحكم، وذكر أبو العباس الحسني رضي الله عنه أن انتفاء الولد يجب عند يحيى عليه السلام بحكم الحاكم، وأصله ما ثبت من أن التفريق يقع بحكم الحاكم دون اللعان، فإذا ثبت ذلك في اللعان، ثبت مثله في نفي الولد؛ إذ لم يفرق أحد بينهما، ويدل على ذلك قول ابن عباس ففرق رسول الله /193/ صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وقضى أن لا يدعى الولد لأب، فجعل قطع النسب قضاءً، فثبت أنه يثبت بالحاكم، على أنه قياس التفريق بعلة أنه أحد الحكمين المتعلقين باللعان.
فصل: [في أن فرقة اللعان فسخ]
خرَّج أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى أن الفرقة الواقعة باللعان فسخ، وليس بطلاق.
والأصل فيه حديث عكرمه، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [فرق بين هلال بن أمية وزوجته، وقضى أن لا يدعا ولدها لأب، ولا يرمى ولدها، ومن رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحد، وقضى أن لا بيت لها ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها زوجها(2)، فقدصرح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم] (3) قضى أن تفريقهما من غير طلاق، فيجب أن يكون فسخاً.
فإن قيل: ذلك قول ابن عباس، ولم يضفه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما أضاف إليه أنه قضى أن لا بيت لها و لا قوت، وبعد ذلك أدرجه ابن عباس في الحديث.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/281.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 2/285.
(3) ما بين المعكوفين سقط من (أ).(60/14)


قيل له: ليس ذلك على ما قدرت؛ لأنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بذلك من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، وأخبر عماله قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيجب أن يكون قد عرف ذلك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن لا يكون قال ذلك برأيه، ألا ترى أنه لو قال: سجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه سهى، لم يجب أن يحمل ذلك على أن قوله: لأنه سهى قاله برأيه، وكذلك لو قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن شاهداً واحداً شهد، وحلف المدعي، لم يجز أن يحمل ذلك على أنه قاله برأيه، فكذلك قوله في هذا الموضع، على أنه لو كان قاله برأيه أيضاً، لوجب أن يكون حجة؛ لأنه لم يحفظ عن أحد من الصحابة خلافه، فجرى مجرى إجماعهم.
وأيضاً هي فرقة تقع من غير اختيار الزوج، فوجب أن يكون فسخاً، دليله سائر الفسوخ، يؤكد ذلك أن التحريم الواقع باللعان قد يتأبد؛ على وجه من الوجوه، ولا خلاف أن التحريم الواقع باللعان قد يتأبد لأن الزوج لم يكذب نفسه، ولا خلاف أن التحريم متأبد، فبان بذلك أنه(1) تحريم الفسخ دون تحريم الطلاق.
مسألة: [في اجتماع المتلاعنين بعد اللعان]
قال: (ولا يجتمعان(2) بعد ذلك أبداً)، وقال في (المنتخب) (3) إلا أن يكذب الزوج نفسه ويظهر التوبة فيقام عليه الحد فحينئذٍ يجوز لهما أن يجتمعا بتزويج جديد، وألحق الولد به.
__________
(1) في (ب): فبان بذلك أن الفسخ دون تحريم الطلاق.
(2) في (ب): ولم يجتمعا.
(3) انظر المنتخب 161.(60/15)


ما ذكرناه من أنهما لا يجتمعان أبداً منصوص عليه في (الأحكام) (1). وما ذكرناه بعد ذلك منصوص عليه في (المنتخب). وكان أبو العباس الحسني ـ رحمه الله تعالى يجعل الروايتين رواية واحدة ـ ويقول: إنهما لا يجتمعان أبداً، ويحمل ما في (المنتخب) على أن المراد به إذا فرق الحاكم قبل لعان المرأة على وجه الخطأ، ذكر ذلك في (النصوص)، وذلك بعيد؛ لأن يحيى عليه السلام علق في (المنتخب) جواز تزويجها به بأن يتوب، ويكذب نفسه، وشرط ذلك في إثبات النسب أيضاً، ولو كان ذلك خطأ من الحاكم في التفريق، لم يكن لذلك التفريق حكم، وإن جعل له حكماً، لم يجب أن يراعى ليزوجه بها ما راعى إذا لم يجعله واقعاً على لعان صحيح، على أنه لا فرق بينه وبين من جعل الروايتين رواية واحدة، وحمل ما في (الأحكام) على ما في (المنتخب) بأن قال: تقدير الكلام أنهما لا يجتمعان أبداً، إلا أن يكذب الزوج نفسه، فيكون ما ذهب إليه أقرب؛ لأن تعسفه أقل، وإحتماله أظهر، والصحيح أنهما روايتان مختلفتان؛ لأن ذلك هو الظاهر من الكلامين، فما ذكرناه أولاً هو رواية (الأحكام)، وبه قال أبو يوسف والشافعي.
وما ذكرناه ثانياً هو رواية (المنتخب)، وبه قال أبو حنيفة، ومحمد.
ووجه رواية (الأحكام) أن النبي صلى الله /194/ عليه وآله وسلم قال لما فرق بينهما: (لا يجتمعان أبداً إلى يوم القيامة). وفيما رواه أبو داود في (السنن) بإسناده عن سهل بن سعد قال: (حضرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين لاعن بينهما فمضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ولا يجتمعان أبداً)(2).
__________
(1) انظر الأحكام 1/470.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 2/288.(60/16)


وفيما رواه أبو داود في (السنن) بإسناده عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم للمتلاعنين: (حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها) (1)، فمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون له عليها سبيل على وجه من الوجوه، وذلك التحريم.
ويدل على ذلك مارواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه قال: (إذا فعلا ذلك ـ يعني تلاعنا ـ فرق بينهما الحاكم، فلم يجتمعا أبداً)، وأيضاً لا خلاف أن الزوج لو لم يكذب نفسه أبداً، لم يرتفع ذلك التحريم، وكذلك إذا أكذب نفسه، والعلة أنه تحريم وجب باللعان، ويمكن أن يقاس ذلك على التحريم الواقع بالرضاع، بعلة أنه يحصل مع انتفاء الرق، ولا يرتفع بإصابة الزوج، ولا بغير دين، فوجب أن يكون مؤبداً، والأصول تشهد لذلك؛ لأنا لم نجد الإكذاب أوجب رفع شيء من التحريم الواقع بين الزوجين، ألا ترى أنه لو قال: هي لي ذات رحم محرم، أو قال: هي محرمة عليَّ للرضاع، ثم أكذب نفسه، لم يرتفع التحريم، وكذلك لو قال: طلقتها ثلاثاً، ثم أكذب نفسه، لم يرتفع التحريم، فوجب أن يكون كذلك حكم تحريم اللعان، على أن الإكذاب إذا لم يرفع التحريم الحاصل في الحال، لم يرفع التحريم المؤبد، على أنه إذا ثبت أن الفرقة الواقعة باللعان فسخ، فلا قول بعده إلا القول بأن تحريمها مؤبد.
فإن قيل: فإن اللعان يرتفع حكماً، فوجب أن يرتفع التحريم المعلق به.
قيل له: لو كان ذلك كذلك، ل رتفع تحريم الحال، ولعادا زوجين.
ووجه رواية (المنتخب) أن الزوج إذا أكذب نفسه، ارتفع حكم اللعان، بدلالة أنه يُحد، والولد إن كان نفي فإنه يلحق به، فإذا ثبت ذلك، وجب أن يرتفع التحريم المختص به، وإن لم يرتفع تحريم الحال، كما أن المطلقة ثلاثاً إذا نكحت زوجاً غير الأول، ارتفع التحريم المختص به، وإن لم يرتفع تحريم الحال.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/285 ـ 286.(60/17)


ويمكن أن يقاس على التحريم الذي يقتضيه الطلاق في أنه لا يجب أن يتأبد، بعلة أنه تحريم لا يَرِج إلا على النكاح، ويمكن أن يقال: إنه تحريم لا يتعلق بحرمة نسب، ولا رضاع، ولا نكاح، فلم يجب أن يتأبد، دليله تحريم الطلاق، أو تحريم إختلاف الدينين، فإذا ثبت ذلك، فما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن أمير المؤمنين عليه السلام، من أنهما لا يجتمعان أبداً محمول على أنهما لا يجتمعان ما دام حكم اللعان باقياً، وكذلك ما روي عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا سبيل لك عليها)، محمول على أنه لا سبيل لك عليها ما دامت على حكم اللعان، ويؤيَّد ذلك بالظواهر المتضمنة لإباحة النكاح.
مسألة:[في كيفية اللعان]
قال: وإذا أراد اللعان، قال الحاكم للزوج: قل والله العظيم إني لصادق فيما رميتها به من قذفي لها، ونفي ولدها، ويكون الولد في حجرها، ويشير الزوج إليه بيده، ثم يكرر ذلك أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين فيما قذفتك به من نفي ولدك هذا، ثم يقول للمرأة: قولي والله العظيم إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من نفي ولدي هذا، ثم تُكرر ذلك أربع مرات، ثم تقول في الخامسة: غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين، وإذا قالا ذلك، فقد تم بينهما اللعان. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2).
__________
(1) انظر المنتخب 163.
(2) انظر الأحكام 1/ 470.(60/18)

8 / 149
ع
En
A+
A-