قيل له: لم يتغير موجِب القذف، وإنما تغيَّر حكم البينة، فإنه حصل للزوج اللعان بدل إقامة الشهادة على ما سلف القول فيه، ويدل على ذلك أيضاً أنه لا خلاف في الأجنبي إذا قذف أجنبية، ثم لم يأت بحجة، أنه يلزمه الحد، فكذلك الزوج إذا قذف قذغ زوجته، والعلة أنه قاذف لم يأت بحجة، فوجب أن يكون حكمه حكم الأجنبي، والأصول تشهد بصحة قولنا، وذلك أنه لا وجه لأن يكون للإنسان حق المطالبة بما يدخل الضرر على نفسه، ألا ترى أنه إذا لاعنها حقق عليها الزنا.
وأما ما يدل على أن المرأة إذا نكلت عن اللعان بعد لعان الزوج يلزمها الحد قول الله تعالى: {وَيُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِيْنَ..} الآية، فدل ذلك على أنها يُدرأ عنها العذاب بما تأتي به من الإلتعان، فثبت بذلك أن العذاب لازم لها متى لم تلاعن، وهو الحد، ألا ترى أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ادرأوا الحدود بالشبهات)، دال على أن الحد يجب متى لم يكن شبهة /191/ توجب(1) أن يُدرأ بحيث يكون للشبهة مساغ للدرء، فإذا ثبت أن اللعان يوجب درأ العذاب عنها، لزمها العذاب متى لم تلاعن.
فإن قيل: ومن أين لكم أن المراد بالعذاب هاهنا هو الحد، وما تنكرون على من قال لكم: إن المراد به هو الحبس؟
__________
(1) في (أ): فوجب.(60/9)
قيل له: قلنا ذلك؛ لأن المعهود أولى أن يحمل عليه الخطاب مما لم يكن له عهد، ولم يتقدم في شيء من هذه الآيات إطلاق لفظ العذاب والمراد به الحبس، وقد تقدم إطلاق اللفظ به والمراد به الحد، وهو قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِيْ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَائِةَ جَلْدَةٍ}، إلى قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ}، فكان حمل قوله تعالى: {وَيُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}، على ما تقدم ذكره أولى من حمله على مالم يتقدم ذكره، وقد قال الله تعالى في موضع آخر: {فَإِذَا أُحِصِنَّ فَإِنْ أَتِيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلِيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}، فسمي الحد عذاباً، فأكد ذلك ما ذهبنا إليه.
ويدل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاعن بين هلال بن أمية وزوجته خولة بنت عاصم بن عدي، فوضعت على الصفة المنكرة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لولا كتاب من الله سبق لكان لي فيهما رأي)، قيل: وما الرأي؟ قال: (الرجم بالحجارة)، وفي بعض الأخبار (لو لا الإيمان) وفي بعضها (لو لا الحد) يعني اللعان، فدل ذلك على أنها كانت يلزمها الرجم لولا لعانها، فإذا لم تأت به، وجب ان تُرجم، ولا خلاف أنه لو قذفها وأقام عليها البينة، ولم تُدلِ هي بحجة، أنها(1) يلزمها الحد، فكذلك إذا قذفها ولاعنها وامتنعت هي من اللعان بعلة أن الزوج أقام ما جعل حجة له.
على أن ما ذهبوا إليه من حبسها لِتُقِرَّ بما يوجب الحد، أو تأتي بما يدرؤه عنها(2) لم نجده في شيء من الأصول، بل الأصول شاهدة لنا؛ لأن الواجب في الحدود أن تقام إن وجبت، أو تترك إن لم تجب، فلا يخلو لعان الزوج من أن يكون أوجب عليها الحد، أو لا يكون قد أوجب، فإن كان قد أوجب، فيجب أن يقام متى لم يعرض ما يوجب درؤه، وإن لم يكن قد أوجب، فلا معنى لحبسها.
مسألة: [في ما يوجبه اللعان]
__________
(1) في (أ): أنه.
(2) في (أ): منها.(60/10)
قال: وإن مضيا على اللعان، فرق الحاكم بينهما، وانتفى الولد عنه.
ما ذكرناه من تفريق الحاكم بينهما منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2)، وكلامه يقتضي ما ذكرناه من انتفاء الولد، وهو منصوص عليه في (المنتخب) (3).
ما ذهبنا إليه من أن الفرق بينهما تقع بتفريق الحاكم، به قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، قال الشافعي تقع بنفس اللعان، وهو قول زفر، حكاه أبو الحسن الكرخي في (المختصر).
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن الأخبار الواردة في هذا الباب ناطقة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرَّق بين المتلاعنين، فمنها ما مضى، ومنها: ما أخبرنا به أبو الحسين بن اسماعيل، حدثنا الناصر، حدثنا الحسن بن يحيى الحسيني، حدثنا إبراهيم بن محمد، بن عائد، عن داوود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أخت بني عجلان إذ لاعنت زوجها أن فرَّق بينهما، وجعل لها المهر، ولفظ التفريق إذا استعمل في الشرع على هذا الحد، أفاد قطع أحكام النكاح، فوجب أن يكون ذلك دالاً على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي قطع أحكام النكاح، وفي ذلك دليل على أنها كانت ثابتة حين قطعها صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: فقد يقال: إن الحاكم فرَّق بين فلان وزوجته، وإن لم يكن قطع ما بينهما من النكاح، إذا /192/ منعها منه، فما أنكرتم أن يكون ما رُوي من تفريقه صلى الله عليه وآله وسلم محمولاً على ذلك؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/470.
(2) انظر المنتخب 160.
(3) انظر المنتخب 160.(60/11)
قيل له: إذا كان استعمال التفريق في عرف الشرع يقتضي ما ذكرناه، فلا يحوز الإنصراف عنه إلى ما سواه إلا بالدليل، والدليل على ذلك: ما رواه أبو داود في (السنن) (1) بإسناده، عن ابن شهاب، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره، أن عويمر العجلاني لما فرغ من لعان امرأته قال: كذبت عليها يارسول الله إن أمسكتها، فطلقها عويمر ثلاثاً، ففي هذا بيان أن التفرقة لم تكن وقعت بنفس اللعان؛ لأنها لو كانت وقعت بنفس اللعان، لم يقاره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قوله: كذبتُ عليها إن أمسكتها، ولا على طلاقه لها؛ لأن ذلك لا يصح أن يقال إلا فيمن يكون له بعد زوجته، وإذا ثبت أن الزوجية(2) لم تكن انقطعت بعدُ بنفس اللعان، ثبت أنها تنقطع بتفريق الحاكم على ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: ولم إدعيتم أن الفرقة لو كانت وقعت بنفس اللعان، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقاره عليه؟
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن 2/280 ـ 281.
(2) في (ب): الزوجة.(60/12)
قيل له: لأن وقوع الفرقة تقتضي تحريم البضع، وقوله هذا يتضمن إباحة البضع، ولا يجوز أن يسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يستبيح فرجاً محرماً، فلا ينكر عليه، ومما يدل على ذلك أنه لا خلاف بينا وبين الشافعي أن الإيلاء لا يوجب وقوع الفرقة، فكذلك اللعان، والعلة أن كل واحد منهما يمين، وأيضاً وجدنا اللعان تحالفاً بين المتلاعنين، فوجب أن لا يقع الفسخ بنفسه، دليله تحالف المتبايعين، والأصول(1) تشهد لنا؛ لأن اللعان إما أن يكون يميناً، أو يكون شهادة، وقد علمنا أن الأحكام المتعلقة بالأيمان والشهادات من فسخ، أو إثبات، أو غيرهما، لا تحصل بنفس اليمين، ولا بنفس الشهادة، وإنما تحصل بالحكم عند اليمين، أو الشهادة، فوجب أن يكون حكم التفريق الذي يتعلق باللعان، على أن الفرقة تقع عند الشافعي بلعان الزوج قبل لعان المرأة، ولعانه إنما هو تحقيق ما رماها به، وقد علمنا أنه لو حقق ذلك بالشهادة، لم تقع الفرقة، فكذلك إذا حققه بالأيمان، على أن الفرقة لو وقعت بلعان الرجل، لم يكن للعان المرأة معنى؛ لأنها تكون قد صارت أجنبية.
وأما زفر، فإنه يذهب إلى أن الفرقة تقع بفراغ المرأة من اللعان بعد لعان الزوج، فيقال له: إذا لم تقع الفرقة بلعان الزوج، لم يجب أن تقع بلعان المرأة؛ لأن كل واحد منهما لعان، ولأن كل واحد منهما حقق ما ادعاه، وأكذب صاحبه، فلم يجب أن تقع الفرقة، يؤكد ذلك سائر الأصول التي ذكرناها.
فأما انتفاء الولد فالأصل فيه: ما رواه أبو داود في (السنن) بإسناده، عن عكرمه، عن ابن عباس في لعان هلال بن أمية وامرأته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرَّق بينهما، وقضى أن لايدعى ولدها لأب(2).
وفيه حديث ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته ففي زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففرق بينهما وألحق الولد بأمه(3).
__________
(1) في (ب): الأصول.
(2) أخرجه أبو داود في السنن 2/284 ـ 285.
(3) أخرجه أبو داود في السنن 2/286.(60/13)