ويبين ذلك أنه لاخلاف بينا وبين الشافعي أن الزوج إذا إمتنع من اللعان بعد القذف، لزمه الحد ويقول إذا أكذب نفسه، فكشف ذلك أن اللعان بدل من الحد، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن لا حد على من ذكرناهم بما نبينه في كتاب الحدود، ثبت أن لا لعان عليهم.
وأما العبد إذا كانت تحته حرة، والمحدود في القذف، فإن أبا حنيفة يذهب إلى أنه(1) لا لعان عليهما، وأنهما يحدان، وعلل ذلك بأنهما ليسا من أهل الشهادة، فإن اللعان شهادة، وهذا هو(2) عندنا فاسد من وجهين:
أحدهما ـ أن اللعان ليس شهادة، وإنما هو جار مجرى الأيمان، بدلالة أنه لو كان شهادة، لكانت شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، ولا اعتبر فيه العدالة، على أنه يجوز لعان الأعمى، والفاسق، وإن كانت شهادتهما غير جائزة، على أن العبد عندنا، والمحدود في القذف، من أهل الشهادة، وإنما يمنع من شهادة القاذف لفسقه، كما يمنع شهادة سائر الفساق، فإذا أكذب نفسه، وتاب، جازت شهاته فوضح سقوط ما اعتمده في ذلك على أصولنا.
مسألة: [في ما يوجب اللعان]
قال: (ويقع اللعان بين الرجل وزوجته، إذا نفى ولدها، أو بالزنى قذفها، ولم يأت عليها بأربعة يشهدون على لفظه). وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3)، وهذه الجملة مما لا خلاف فيها بين العلماء، وهي دالة على أن من نفى حمل امرأته لم يلاعنها إلا بأن تضع دون سته أشهر؛ ليحصل اليقين بنفي الولد على الحقيقة، وهكذا خرَّجه أبو العباس الحسني رحمة الله عليه في (النصوص)، وهو قول أبو يوسف، ومحمد.
قال أبو حنيفة: لا يلاعن وإن ولدت بعده بيوم، أو أكثر، أو أقل.
وقال الشافعي: يلاعن على الأحوال كلها، وحكي نحوه عن مالك.
__________
(1) في (أ): أن لا.
(2) في (أ): وهو عندنا.
(3) انظر الأحكام 1/470.(60/4)
فأما الوجه فيما ذهبنا إليه من أنه لا لعان إن جاءت بولد بعد ستة أشهر خلافاً للشافعي، أنه لا يقين بأن هناك ولداً منتفياً، فوجب أن يسقط اللعان؛ لأن اللعان يجب للقذف، أو نفي الولد؛ لِمَا تضمن من معنى القذف، وهاهنا لم يحصل واحد منهما على الحقيقة، وكما لم يعلم أنه ناف للولد، لم يلزمه اللعان، دليله نفي الولد ولا حمل أصلاً بأن تكون المرأة صغيرة، أو آيسة.
فإن قيل: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاعن لنفي الولد، وهي بعد حامل.
قيل له: في الخبر ما يدل على أنه كان قذفها بالزنا صريحاً، ومن فعل ذلك، لزمه اللعان كانت امرأته حاملاً، أو حائلاً؛ لأن اللعان يكون إذ ذاك للقذف بالزنى، لا لنفي الحمل.
فإن قيل: فالحمل محكوم به قبل الولادة بدلالة قوله تعالى: {وَأُوْلاَتِ الأَحْمَالِ أَجَلَهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وقوله: {وَإِنْ كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَانْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وأجمع الفقهاء على ذلك، وأجمعوا أيضاً على أن من إشترى جارية، فشهد النساء أنها حامل، أن للمشتري يردها بالعيب، فإذا ثبت بما بيناه أن الحمل محكوم به قبل /189/ الولادة، لم يمتنع أن يكون لنفيه قبل الولادة حكم.
قيل له: لسنا نمنع(1) مما ذكرتم من أن الحمل يحكم به، وتعلق الأحكام عليه قبل الولادة، إلا أن تلك هي الأحكام التي لا تسقط بالشبهة، ومن حكم اللعان أن يسقط بالشبهة، وإذا سقط، لم يكن كالحمل(2)؛ لأنه قائم مقام البينة في درأ الحد، والحد يسقط للشبهة، وإذا سقط، لم يكن للعان معنى، إذ قد ثبت أنه لدرأ الحد، فوجب أن يفصل بينه وبين سائر الأحكام المتعلقة بالحمل.
فإن قيل: فإن الحمل قد يُتحقق ويُتيقن، فلا معنى لقولكم إن فيه شبهة.
__________
(1) في (أ): نمتنع.
(2) في (أ) و (ب): كالحد، وظنن على كالحمل في هامش.(60/5)
قيل له لا حمل إلا ويُجَوَّز قبل الولادة أن لا يكون حملاً، وأن يكون ريحاً، أوداء، أو غيره، سيما في الوقت الذي تحصل الولادة بعده لستة أشهر، وإذا كان هذا التجويز قائماً، صح ما بينا من الكلام عليه من أنه لا يخلو من الشبهة.
ووجه ما ذهبنا إليه من أنها إن ولدت لأقل من ستة أشهر من يوم النفي، حصل اليقين بأن النفي صادف الولد؛ لأن أقل الحمل ستة أشهر، فيجري مجرى أن ينفي الولد في انه يجب اللعان له.
فإن قيل: فإن النفي إذا لم يكن قذفاً يوم وقوعه، لم يجز أن يصير قذفاً بعده.
قيل له: لسنا نقول إنه لم يكن قذفاً حين وقع، وإن كنا لم نعلم ذلك إلا بحصول الولادة لأقل من ستة أشهر من يوم النفي، وإذا كان ذلك كذلك، سقط هذا السؤال.
فإن قيل: هو قذف معلق بشرط، فلا يجب أن يتعلق به حكم.
قيل له: ليس الأمر فيه كذلك؛ لأنه نفى الولد نفياً مطلقاً، فكان ذلك قذفاً مطلقاً متى كان هناك ولد منفي على التحقيق.
وقلنا: إن ذلك يلزم إذا لم يكن أربعة يشهدون على لفظه لقوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ..} الآية، فأوجب الحد بشرط أن لا يكون له أربعة يشهدون، واللعان على ما بيناه قائم مقام البينة، فوجب أن لا حد به إذا لم يكن بينة، وبينة القذف شهادة أربعة؛ لما روي أن هلال بن أمية لما قذف زوجته، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((بينتك، أو جلد في ظهرك))، وبينة الزنا إذا أطلقت، عُقل منها أربعة بعرف الشرع، كأنه قال: أربعة يشهدون، أو جلد في ظهرك.
مسألة: [في تراجع أحد الزوجين عن اللعان وفي وعظ الحاكم لهما]
قال: فحينئذٍ يحضرهما الحاكم ثم يقول: خافا ربكما، ولا تُقدما على اللعان، فإن نكل الزوج، ضُرب حد القاذف ثمانين جلدة، وألحق الولد به، وإن مضى الرجل على اللعان، ونكلت المرأة، رجمت.(60/6)
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب)(2) غير إلحاق الولد فإنه منصوص عليه في (المنتخب) (3).
قلنا: إن الإمامَ يعظِهما؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: ((إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب، وقال للزوج: إتق الله تعالى، وكذلك قال للمرأة حتى قال لها: إن كنتِ أذنبتِ ذنباً في الدنيا، فإن رجمك بالحجارة أهون عليك من غضب الله تعالى في الآخرة))؛ لأن(4) ذلك من جملة النهي عن المنكر، ومن جملة النصح.
وما قلناه من إلحاق الولد إن نكل الزوج عن اللعان، فمما لا خلاف فيه، ولأن الولد ينتفي باللعان، فإذا لم يقع اللعان، بقي على حكم الفراش.
وما ذهبنا إليه من أن من نكل منهما عن اللعان، أقيم عليه الحد، به قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يحبس الناكل حتى يُقر، فيقام عليه الحد، أو يلاعن.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ..} الآية، فكان ذلك عاماً في الأزواج وغيرهم.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ /190/ أَزْوَاجَهُمْ..} الآية، فاستأنف حكم الأزواج، فلم يجب أن تكون الآية(5) الأولى متناولة للأزواج؟
قيل له: الآية الثانية جعلت للأزواج حجة خصتهم بها، ولم يمتنع أن تكون الآية الأولى متناولة لهم، فإذا قذف الرجل زوجته، ولم يأت بواحدة من الحجتين البينة التي دلت عليها الآية الأولى، أو اللعان التي دلت عليه الآية الثانية لزمه الحد تقتضيه الآية الأولى.
فإن قال قائل: قذف الرجل زوجته أوجب لها عليه حق اللعان، كما وجب(6) الجلد في الأجنبية، وإذا لم يأت به، أجبر عليه بالحبس كسائر الحقوق لها.
__________
(1) انظر الأحكام 1/470.
(2) انظر المنتخب 160.
(3) انظر المنتخب 160.
(4) في (أ): ولأن.
(5) في (أ): الآية متناولة.
(6) في (أ): أوجب.(60/7)
قيل له: هذا غلط، وذلك أن قذف الزوج عندنا أوجب الحد، كما أوجبه قذف الأجنبي، وإنما ينفصل حال الزوج على الأجنبي فيما يدليان به من الحجة، فجعل للأجنبي إذا قذف أجنبية، وأنكرت المقذوفة حجة واحدة، وهي أربعة يشهدون، وجعل للزوج إذا قذف زوجته حجتان، شهادة أربعة، أو لعان يأتي به.
فأما موجب القذف، فلا فصل فيه بينهما، ويدل على ذلك حديث ابن عباس الذي ذكرناه بإسناده، قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتُ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءٍ}، قال عاصم بن عدي: أرأيت يا رسول الله، لو وجدتُ رجلاً على بطن امرأتي؟ فقلت لها: يازانية، أتجلدني ثمانين جلدة؟ قال: كذلك يا عاصم نزلت.
فدل ذلك على أن قذف الزوجة كقذف الأجنبية في إيجاب الحد.
ويدل على ذلك ما روي أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم به، جلدتموه، أو قَتل، قتلتموه، أو سكت، سكت على(1) غيض؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم إفتح)) فجعل يدعو، فنزلت آية اللعان، فمقارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له على قوله: فتكلم جلدتموه دليل على صحة ما قلناه، وكذلك ما روي عن عكرمة، عن ابن عباس، أن هلال بن أمية لما قذف زوجته عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له(2): ((البينة أو جلد في ظهرك)).
فإن قيل: فكل ذلك قد ورد الأثر به(3) فقد تغير حكمه؟
__________
(1) في (أ): عن.
(2) في (أ): قال.
(3) في (أ): بأنه قد.(60/8)