وقال في (المنتخب) (1): إنه إذا(2) أطلق اليمين لم يكن مولياً، وكان أبو العباس الحسني رضي الله عنه: ينصر رواية (المنتخب) ويحمل عليه ما في (الأحكام) والصحيح عندي ما ذكره أولاً، وهو المحفوظ عن الفقهاء؛ لأن الله تعالى قال: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}، فوجب أن يكون ذلك حكم كل مول إلا ما منع منه الدليل، فلما ثبت بالإجماع بأن المولي على أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً، خصصناه، وبَقَّيْنَا ما عداه على حكم الظاهر، والمخالف في هذا لا يجد بداً من أن /186/ يُقدِّر في الآية ما ليس فيها، وهو أن يقول تقديرها للذين يؤلون من نساءهم أربعة أشهر تربص أربعة أشهر وهذا خلاف الظاهر، على أن من يخالف في هذا لا ينكر أن يكون مولياً إذا حلف(3) على أربعة أشهر فما فوقها، فكذلك من أطلق الإيلاء، والعلة أن يمينه تناولت أربعة أشهر فما فوقها.
ووجه رواية (المنتخب) أن الإيلاء معتبر فيه اللفظ، فيمين الْمُطْلق للإيلاء وإن تناولت أربعة أشهر فما فوقها، واقتضت(4) التأبيد، فإنه غير ملفوظ به، فوجب أن لا يقع الإيلاء، ويمكنه أن يفسر ذلك على من آلى دون أربعة أشهر بعلة أنه لم يذكر في الإيلاء أربعة أشهر فما فوقها، فإن حلف على ما دون ذلك، لم يكن مولياً.
مسألة: [في من آلى على دون أربعة أشهر]
قال: ولا إيلاء إلا أن يحلف على أربعة أشهر فما فوقها، فإن حلف على ما دون ذلك، لم يكن مولياً.
__________
(1) انظر المنتخب 159.
(2) في (أ): أن.
(3) في (ب): عكف.
(4) في (ب): ولا اقتضت.(59/16)


وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) و(المنتخب) (2)، وقد بينا فيما مضى أن الرجل إذا حلف على أربعة أشهر فما فوقها يكون مولياً، والمحفوظ عن العلماء أجمع أنه لا إيلاء في أقل من أربعة أشهر، وحكي عن قوم من المتقدمين أنهم جعلوه إيلاء، والإجماع الحاصل بعدهم يسقط ذلك القول على أنه روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام الحديث الذي بينا أنه قال: (إذا كان دون أربعة أشهر، فليس بمول)، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، فوقَّت الله تبارك وتعالى أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه دون ذلك، فليس بإيلاء، وإذا ثبت ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس رضي الله عنه، ولم يرو خلافه عن غيرهما من الصحابة، جرى مجرى الإجماع منهم، على أن ما ثبت عن علي عليه السلام فمن أصلنا أنه لا يجوز خلافه، على أنه قد ثبت أنه لا يلزمه حكم الإيلاء من الوقوف أو الطلاق على حسب الإختلاف فيه إذا حلف على أقل من أربعة أشهر عند انقضاء مدة اليمين ولا قبلها، فوجب ألا يلزمه بعدها، دليله لو حلف أيضاً أن يضارها، أو يسيء عشرتها مدة من الزمان، ألا ترى أنه لما لم يلزمه حكم الإيلاء عند انقضاء مدة يمينه هذه ولا قبلها، لم يلزم بعدها.
__________
(1) انظر الأحكام 1/434.
(2) انظر المنتخب 159.(59/17)


باب القول في اللعان
[مسألة في شروط المتلاعنين]
اللعان يقع بين الرجل وزوجته إذا كانا حرين بالغين عاقلين مسلمين، أو كانت المرأة حرة، فإن كانا كافرين، أو مملوكين، أو كانت المرأة مملوكة، أو كان أحدهما صغيراً أو مجنوناً، فلا لعان بينهما. نص في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2) في كتاب الحدود على أنه لا حد على من قذف كافراً.
ونص في كتاب الحدود من (الأحكام) (3) على أن الصغيرة إذا قذفها زوجها، فلا حد عليه، لأنها ممن لا يحد فقلنا: إنهما إذا كانا صغيرين، أو كان أحدهما مجنوناً، فلا لعان(4) بينهما. ونص في (الأحكام) (5) و(المنتخب) (6) أن الزوج إذا كان حراً، وزوجته أمة، فقذفها، فلا لعان بينهما، ونص فيهما(7) جميعاً على أن الزوج إذا كان عبداً، وكانت الزوجة حرة، فقذفها، كان بينهما اللعان، إعتباراً بأن يكون الزوج ممن يحد لها إذا قذفها.
والأصل في ذلك: قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسِهِمْ}، بعد قوله: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتُ}.
__________
(1) انظر الأحكام 2/ 268 ، 239.
(2) انظر المنتخب 420 ، 161.
(3) انظر الأحكام 2/268.
(4) في (أ) و (ب): حد وظنن على لعان في الهوامش.
(5) انظر الأحكام 2/269.
(6) انظر المنتخب 420 ، 161.
(7) انظر الأحكام 2/269، والمنتخب 161.(60/1)


وورد في ذلك ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا الحسين بن يحيى، /187/ حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون، عن أبي مالك الجنبي، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ}، قال عاصم بن عُدي: أرأيت(1) يا رسول الله، لو وجدتُ رجلاً على بطن امرأتي، فقلت لها: يا زانية أتجلدني ثمانين جلدة؟ قال: كذلك يا عاصم نزلت الآية، فخرج سامعاً مطيعاً، فلم يصل إلى منزله حتى استقبله هلال بن أمية، وكان زوج ابنته خولة بنت عاصم، فقال: الشر. قال: وماذاك؟ قال: رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة يزني بها، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره هلال بالذي كان، فبعث إليها، فقال: (ما يقول زوجك)؟ فأنكرت ذلك، فأنزل الله تعالى آية اللعان: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ..} الآية، فأقامه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد العصر على يمين المنبر، فقال: ((ياهلال ائت بالشهادة)) ففعل، حتى قال: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فقالت: يارسول الله كذب، فأقامها مقامه، فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية، وإنه لمن الكاذبين، حتى قالت: والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرَّق بينهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: ((لا تجتمعان إلى يوم القيامة)). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن وضعت ما في بطنها على صفة كذا وكذا، فالولد لزوجها))، وإن وضعته على صفة كذا فهو لشريك بن سحماء، وقد صدق زوجها، فلما وضعت قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لولا كتاب من الله سبق لكان لي فيها رأي))، قالوا: يارسول الله وما الرأي؟ قال: ((الرجم بالحجارة)).
__________
(1) في (ب): قال عاصم بن عدي: يا رسل الله.(60/2)


فدل الخبر على أن اللعان نزل لرفع الجلد عن الأزواج إذا رموا نساءهم، فوجب أن يكون من لا حد عليه إذا رمى زوجته لم يكن بينهما لعان.
ويدل على ذلك ما روي عن علقمة، عن عبدالله أن رجلاً من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم به جلدتموه، أو قتل، قتلتموه، أو سكت، سكت على غيض، فقال: اللهم افتح، فجعل يدعو فنزلت آية اللعان.
وروي عن عكرمه، عن ابن عباس أن هلال بن أميه لما قذف زوجته عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((البينة، أو جلد في ظهرك))؟ فدل ذلك على أن حد الزوج إذا قذف زوجته كان كحده إذا قذف الأجنبية حتى نزلت آية اللعان، فبان أن اللعان هو لدرء الحد.
وروي عن سعيد بن حبير، عن ابن عباس قال: لما لاعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين امرأة وزوجها فرق بينهما، فلما وضعت الولد وبه شبه ممن قذفت به، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لولا ما مضى من الحد، لرجمتها)) فسمى اللعان حداً، فوجب أن لا يلزم من لا يلزمه الحد، وقد روي: ((لولا كتاب من الله سبق))، وروي: (لولا الإيمان)، ويجوز أن يكون قال: كل ذلك، وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا لعان بين أهل الكفر وأهل الإسلام، ولا بين العبد وامرأته).
فإن قيل: فأنتم توجبون اللعان بين العبد وزوجته الحرة؟
قيل له: نخص ذلك من الخبر بالدلالة.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}، عام في الجميع؟
قيل له: لا ننكر /188/ أن يكون ظاهر الآية(1) يقتضي العموم، لكن يخصها ما بيناه، ويدل على ذلك ما أجمعوا عليه من أن الصبي إذا قذف زوجته قبل أن يبلغ، فلا لعان عليه، وليس لهم أن يقولو إن أفعاله لا حكم لها؛ إذ الحكم يتعلق بجنايته، على أنه إن كان لا يمنع أن يطالب باللعان إذا بلغ، فبان أن سقوط اللعان كان لما ذكرناه.
__________
(1) في (ب): ظاهر الآية العموم.(60/3)

5 / 149
ع
En
A+
A-