ألا ترى أنه لا خلاف في جواز البيع بثمن لم يره، وكذلك السلم يجوز العقد عليه ولم ير فبان أن ذلك ليس بغرر فلم يصح إدخال ذلك في النهي عن بيع الغرر.
وأيضاً فبيع الملامسة فليس هو بيع الثوب المطوي، بل ذكر العلماء أنه بيع كان في الجاهلية، وذلك أنه كان يتساوم الرجلان السلعة فأيهما لمس صاحبه وجب عليه البيع منه، وقيل: إذا لمس المبيع أو أمأ بيده إليه وجب البيع فلا معنى لحمله على ما قالوا.
وأيضاً النكاح على مال لم ير، والخلع على مالم لم ير جائز فكذلك البيع، والمعنى أنه عقد معاوضة فلم يجب أن تكون الرؤية شرطاً في جواز، وأيضاً لا خلاف أن الثمن يصح وإن لم يره البائع كذلك المبيع، وإن لم يره المشتري.
والعلة أن رؤية من يملك ليس بشرط في صحة تملكه إذ لا خلاف في جواز شراء الباقلاء في قشره والجوز واللوز، وإن كان المشتري لم ير المقصود بالشراء، وكذلك سائر الأشربة، على أن عدم الرؤية من جهالة الصفة، وجهالة الصفة ليس أكثر من عدمها، ويجوز شراء العبد على أنه صحيح، وإن كان به عمى أو كان مقطوع اليد أو ما أشبه ذلك فأولى أن يجوز الشراء وإن لم يره.
فإن قيل: لو كان العقد جائزاً لم يرد بخيار الرؤية.
قيل له: هذا منتقض بجواز رده بخيار العيب وخيار الشرط، وإن كان العقد جائزاً، فإذا صح العقد بما بيناه فلا خلاف بين المجيزين له أن له خيار الرؤية.
وما روي أن جبير بن مطعم حكم به على عثمان دليل على ما قلناه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من اشتراء جلباً أن له الخيار إذا دخل السوق).
قال يحي بن الحسين عليه السلام في الفنون: إنه إذا وجده على الصفة التي وصفت له فلا خيار له.(73/6)
وحكى ابن أبي هريرة أن ذلك قول بعض أصحابهم إذا قالوا بخيار الرؤية، وضعف ذلك فقال: الصحيح هو أن للمشتري الخيار على كل حال وهو الصحيح الذي ذكره، وأطلقه في الأحكام دون ما ذكره في الفنون لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل لمشتري الجلب الخيار إذا دخل السوق ولم يشترط أن يكون ذلك له إذا لم يجده على النعت الذي نعت، وكذلك جبير بن مطعم وطلحة، ولم يشترطا فيه أن يكون المشترى على النعت الذي نعت أو لا يكون فصح ما قلناه.
الشروط لصحة الخيار
مسألة:
قال: وكل بيع يعقد على خيار لا يعلم أمده فوه فاسد، وهذا مما لا خلاف فيه لأنه يقتضي الجهالة في العقد، لأنه لا يدري متى يستقر العقد إن استقر، ولا متى يبطل إن بطل فيصير العقد مجهولاً، ويشتمل أيضاً على الغرر، وإلى تعليق حكم المبيع والثمن أبداً فلذلك بطل.
خيار الشرط
مسألة:
قإن عُقِدَ البيع على خيار إلى أمد معلوم جاز البعي والخيار سواء تطاول الأمد أو تقااصر بعد أن يكون محدوداً معلوماً.
أما خيار الثلاثة فلا خلاف فيه.
والأصل فيه ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثاً، وإن رجلاً أتاه فقال: يارسول الله إني أخدع في البيع واالشراء)، فجعله فيما باع واشترى بالخيار ثلاثاً، وما زاد على الثلاثة وإن كان معلوماً ففيه خلاف قال زيد بن علي عليما السلام: ولا يجوز الخيار أكثر من ثلاثة أيام، وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال أصحابنا: يجوز إن كان إلى وقت بعينه وإن طال أمده. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
ووجهه ما أجمعوا عليه من أن شرط خيار ثلاث يصح ويصح البيع معه فكذلك. ما زاد على ذلك إذا كانت مدة الخيار مدة معلومة، والعلة أنه اشترط لنفسه الخيار إلى أمد معلومه فثبت أن الخيار المعلوم إلى المدة يجب أن يكون صحيحاً.(73/7)
يدل على صحة ذلك أن الخيار متى لم يكن معلوم المدة فسد البيع فبان أن صحته تعلق بكون المدة معلومة.
ويدل على ذلك ما روى بان عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: البيعان بالخيار مالم يفترقا، إلا بيع الخيار، وما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (البيعان بالخيار مالم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار)، فأثبت صلى الله عليه وآله وسلم بيع الخيار وصفقة الخيار من غير اشتراط فيه الخيار على أي وجه يشترط، وبقي الباقي على مقتضى الخبرين.
ويدل عليه قوله صلى االله عليه وآله وسلم: (البعان بالخيار مالم يفترقا)، أو يقول أحدهما لصاحبه إختر ولم يشترط أن يكون الخيار في قليل المدة أو كثيرها فكان دليله كدليل الخبرين الأولين.
فإن قيل: اشتراط الخيار فيه غرر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الغرر فوجب أن لا يجوز من ذلك إلا مقدار ماورد الأثر به، وحصل عليه الإجماع وهو خيار الثلاثة، وبقي ما زاد عليه داخلاً في جملة النهي عن بيع الغرر.
قيل له: الجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما ـ أن مثل هذا لو ثبت فيه ما قلتم لم يجب الإمتناع من القياس عليه فنحن نقيس ما زاد على الثلاث على ما ورد فيه وحصل عليه الإجماع فنخرجه بالقياس من جملة النهي عن الغرر.
والثاني ـ أن اشتراط الخيار إذا كان معلوم المدة فلا يجب أن يكون غرراً، لأنه أبعد من الغرر من خيار الرؤية الذي أجزناه وأجازه أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، ومن خيار الرد بالعيب الذي لا خلاف فيه بين المسلمين، فإذا لم يكن فيهما غرر فأولى أن لا يكون في الخيار المعلوم المدة غرر، لأن هذين الخيارين لا يعلم أمدهما، ومالا يعلم أمده أدنى إلى الغرر مما يعلم أمده.(73/8)
وأيضاً البائع والمشتري دخلا في خيار الشرط على بصيرة، وعلى العلم بغاية مدة الخيار فوجب أن يكون أبعد من الغرر من خيار الرد، لأنهما لزمهم ذلك من غير إختيارهما، ومن غير بصيرة به، ولأنه لا علم بأنه يحصل أولا يحصل، ولا علم بالمدة، وكذلك خيار الرؤية على ما بيناه فبطل تعلقهم بما تعلقوا به.
مسألة:
قال: ولا فصل بين أن يكون الخيار للبائع أو للمشتري أو لهما جميعاً فيما يفسد به العقد أو يصح، وهذا مما لا خلاف فيه، لأن تاثير الخيار يرجع إلى العقد، ولا معتبر فيه بأحوال المتعاقدين فوجب ان يستوي فيه احوالهما.
مسألة:
قال: وإذا اشترى شيئاً وقبضه واشترط لنفسه خياراً إلى أمده معلوم ثم تلفت السلعة نحو أن يكون حيواناً أو ما جرى مجراه قبل انقضاء مدة الخيار، ولم يكن اختار الرد لزم الثمن، وكانت السلعة من ماله، وكذا إن نقصت السلعة عند المشتري والخيار له، وقال أبو حنيفة مثل قولنا.
وقال ابن أبي هريرة يحتمل وجهين: أحدهما ـ أن على المشتري القيمة.
والثااني ـ أن عليه الثمن مثل قولنا.
أراد بالنقصان حدوث العيب فيها.
والوجه في المسألتين جميعاً أن العيب إذا حدث في السلعة والخيار للمشتري بطل خياره وتم البيع، لأن بطلان الخيار يوجب إتمام البيع، وإذا تم البيع لزمه الثمن.
وإنما قلنا: خياره يبطل لأنه قبضه صحيحاً فلا يجوز رده معيباً، وإذا بطل الرد بطل الخيار، لأن الخيار إنما هو للرد، وكذلك إذا مات بطل خياره في آخر جزء مضى من حياته، لأنه يصير معيباً، ولا يمكن رد المعيب فيلزمه البيع، فإذا مات وجب عليه الثمن، وأيضاً إذا مات أو تلف ن كان ثوباً أو نحوه بطل الخيار، لأن الرد فيه تعذر فبطل الخيار المتعلق به.
فإن قيل: فإذاا قلتم: إن خيار الرد بالعيب لا يبطل بحدوث عيب آخر عند المشتري فلم قلتم: إن خيار الرد المشروط يبطل إذا حدث في يد المشتري عيب فيه؟(73/9)
قيل له: لأن المعيب إذا سلمه البائع فلم يسلم ما اقتضاه العقد لأنه اقتضى تسليم الصحيح فكأنه في الحكم قد سلم بعض ما اقتضا العقد تسليمه، والعيب فيه يجري مجرى فوات جزء منه، وليس كذلك التسليم مع خيار المشتري لأنه قد سلم ما اقتضى العقد تسليمه موفراً صحيحاً، فإذا حدث فيه العيب لم يجز له رده معيباً، وقد أخذه صحيحاً فبطل خياره، ولزمه البيع، وإذاا صح ذلك بطل قول من يقول: إن على المشتري القيمة دون الثمن، لأنا قد بينا أن البيع قد تم وبطل الخيار قوجب لزوم الثمن له.
مسألة:
قال: ولو تلفت السلعة عند المشتري والخيار للبائع كانت السلعة من مال البائع ولا يلزم المشتري شيء.
قال أبو حنيفة: هو من مال البائع وأوجب القيمة على المشتري، وقال الشافعي بوجوب القيمة.
وإنما قلنا: إنه من مال البائع لأن البائع لم يطلق البيع لم جعل لنفسه خياراً فيه، ولم يرض بخروج الشيء عن ملكه مالم يبطل الخيار. كما لو ساوم ولم يوقع العقد لم يخرج عن ملكه مع أن الخيار له لو وجبت فيه أيضاً الشفعة، ويكشف ذلك أن الخيار إذا كان للمشتري فللشفيع فيه الشفعة لأن الملك قد انتقل إلى المشتري.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا)، وهما لم يتفرقا لأن التفرق حكماً، وإذا ثبت أنه من مال البائع وجب أن لا يلزم المشتري فيه إذا تلف شيء كالوديعة والعارية والعبد المستأجر.
والمعنى أنه قبضه بإذن صاحبه، وهو على ملكه فيمكنه الرجوع فيه متى شاء من غير إن كان حفظه مضموناً عليه، وليس يلزم عليه المغصوب لأن قبضه بغير إذن مالكه ولايلزم عليه المقبوض على بيع فاسد لأنه قد ملكه المشتري، وخرج عن ملك صاحبه عندنا، ولا يلزم الرهن عليه، لأن صاحبه لا يمكنه الرجوع فيه متى شاء، ولا يلزم عليه ضمان الأجير المشترك، ولا العارية المضمونة، لأن الحفظ مضمون فيهما على القابض.
فإن قيل: فقد قبضه على الضمان.(73/10)