ووجه ما ذكرناه أن حكم الإيلاء يقوى مع بقاء مدة اليمين، فلهذا قال: إنه إذا(1) قدر على الجماع بعد الفيء باللسان في المدة، لزمه الجماع، ولم يجز تأخيره، وأنه بتأخيره يكون مبطلاً للفيء الذي أتى به بلسانه، ألا ترى أن التيمم لما قام مقام الماء عند الضرورة، كان التمكن من الماء يُبطل حكم التيمم، ألا ترى أنه لو تمكن من الماء بآخر وقت الصلاة، لم يجز له تأخير الوضوء؛ لتأكد حال وجوبها في الوقت، وكذلك قال أصحابنا: إن الخطأ في القبلة وما جرى مجراها يوجب الإعادة متى علمه(2) في الوقت، ولا يوجب الإعادة متى لم يعلم به إلا بعد تصرم الوقت، لَمَّا كان تأكد وجوبها في الوقت أقوى، وأما(3) بعد انقضاء مدة اليمين، فيجب أن يكون حكم الإيلاء أخف، فلذلك(4) أجزنا تأخير الوطء إذا قدر عليه بعد(5) الفيء /184/ بلسانه؛ لتعذر الوطء، على أن ما ذهبنا إليه من أنه لا يجوز له تأخير الوطء لمدة اليمين إذا قدر عليه بعد الفيء بلسانه مما لا خلاف فيه.
فإن قيل: فَلِمَ قلتم إن حكم الإيلاء مع بقاء مدة اليمين أقوى؟
قيل له: لوجهين: ـ
أحدهما: أن بقاء حكم الإيلاء مما أجمع عليه قبل مضي أربعة أشهر، وأجمع القائلون بالوقف عليه بعد انقضاء أربعة أشهر، فصار أقوى.
والثاني: أن الإيلاء في الأصل تعلق حكمه في الحنث، ووجوب الكفارة، وإن قلنا نحن: إنه قد يحصل حكمه مع إرتفاع حكم الحنث ووجوب الكفارة، إلا أنه فرع على ذلك الأصل، فالأصل إذاً يجب أن يكون أقوى .
مسألة: [فيمن آلى ثم طلق وراجع في مدة الإيلاء]
__________
(1) في (أ): أن.
(2) في (ب): علم به.
(3) في (أ): فأما.
(4) في (ب): فكذلك.
(5) في (أ): بعدما فاء بلسانه.(59/11)


قال: ولو أن رجلاً آلى من امرأته، ثم طلقها، ثم راجعها قبل انقضاء مدة الإيلاء، وجب أن يوقف بعد انقضاء أربعة أشهر، وكذلك لو تزوجها ثانياً، وجب أن يوقف بعد انقضاء أربعة أشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق ثانياً. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1) ونص في (المنتخب)(2) على نحوه.
ووجه ما ذكرناه، أنه إذا راجعها، وتزوجها ثانياً مع بقاء مدة الإيلاء، رجع عليه حكم الإيلاء: حصول النكاح بكماله في مدة الإيلاء، ألا ترى أنه وجب أن يوقف قبل الطلاق لحصوله مولياً مع بقاء كمال النكاح، بدلالة أنه لو آلى منها، ثم طلقها، لم يوقف، فإذا ثبت ذلك، بان أن وجوب الوقوف كما ذكرناه، فلا فصل إذاً بين إبتداء الحال في ذلك وبين العود إليها، ونص أيضاً في (المنتخب) (3) على أنه لو طلقها ثانياً بعد المراجعة الأولى، ثم راجعها ثانياً في مدة الإيلاء، وجب أن يوقف.
وظاهر كلامه في (المنتخب) يدل على انه لو طلقها ثلاثاً، ثم نكحت زوجاً غيره، ثم طلقها، ثم تزوجها الأول مع بقاء مدة الإيلاء، رجع عليه حكم الإيلاء، وبه قال زفر، حكاه عنه أبو الحسن الكرخي في (المختصر).
قال أبو حنيفة: لا يرجع عليه حكم الإيلاء بعد الطلاق الثلاث.
ووجهه ما بيناه من تعلق ذلك بحصول النكاح في مدة الإيلاء.
مسألة: [في الفيء قبل انتهاء المدة]
قال: ومن فاء إلى زوجته قبل انقضاء المدة التي حلف عليها، لزمه تكفير يمينه. وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (4) و(المنتخب) (5)، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً بين عامة العلماء، وحكي عن الحسن أنه لا كفارة عليه بقوله تعالى: {فَإِنْ فَاؤُا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}.
__________
(1) انظر الأحكام 1/435.
(2) انظر المنتخب 159.
(3) انظر المنتخب 160.
(4) انظر الأحكام 1/433.
(5) انظر المنتخب 159.(59/12)


والأصل فيه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من حلف على شيء، ثم رأى غيره خيراً منه، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه) وقد قال الله تعالى: {لاَ يُؤَآخِذْكُمُ اللَّهُ بِالْلَّغْوِ فِيْ أَيْمَانِكِمْ}.
مسألة: [فيما ينعقد به الإيلاء]
قال: ولو حلف بطلاق امرأته ألا يجامع امرأته لم يكن ذلك الإيلاء(1)، ولا يكون الإيلاء إلا إذا حلف بالله. وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2)، ودل عليه كلامه في (الأحكام) (3)، وبه قال الشافعي في القديم ، وقال في الجديد: يكون مولياً بالطلاق، والعتاق، والنذر، وبه قال أبو حنيفة إلا في الصلاة، فإنه إن قال: لله عليَّ(4) أن أصلي إن جامعتك، لم يكن عنده إيلاء، وذكر أبو بكر الجصاص أن القياس يقتضي أنه لا يكون مولياً إلاَّ إذا حلف بالله.
والأصل في ذلك: قول الله تعالى: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُوْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} والألية هي اليمين في اللغة، وقد قال الله تعالى بعد ذكر الكفارة: {ذَلِكَ كَفَارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}، واليمين الذي(5) يكون ذلك كفارة لها هي اليمين بالله تعالى.
__________
(1) في (أ): إيلاء.
(2) انظر المنتخب 160.
(3) انظر الأحكام 1/433.
(4) في (ب): عليه.
(5) في (أ): التي.(59/13)


ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على أمر، فرأى غيره خيراً منه، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه)، فدل ذلك على أن اليمين هي التي تتعلق بها الكفارة لإيجابه صلى الله عليه وآله وسلم الكفارة على كل حالف خالف ما حلف عليه، وليس /185/ ذلك إلا اليمين بالله، فكل ذلك يبين أن اليمين في الشرع الحلف بالله دون ما عداه، ويبين ذلك أيضاً أن المفهوم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه)) هو اليمين بالله تعالى على عرف الشرع، فإذا ثبت ذلك وجب أن يحمل قوله تعالى: {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}، على الحلف بالله تعالى دون ما عداه.
فإن قيل: فقد يقال: إن فلان حلف بالطلاق وبالعتاق وبصدقة ما يملك ونحوه، ويجري عليه اسم الحالف، وقد ذكر ذلك صاحبكم في كتبه وذكرتموه؟
قيل له: نحن لا نمنع أن يجري ما ذكرتم من اسم الحالف واليمين، ولكن ذلك على ضرب من التجوز، لأن جميع ذلك ليس بيمين في الحقيقة، وإنما هو طلاق مشروط، أو عتق مشروط، أو صدقة مشروطة، وما ذكرتم من أن فقهاءنا وفقهاءهم قد استعملوا ذلك وأطلقوه في الكتب، فهو صحيح، إلا أنه لايمنع أن يحصل للفقهاء عرف في بعض الألفاظ فيشيع استعماله فيهم، كما يتفق ذلك باصطلاح المتكلمين والنحاة وغيرهم، ولا يجوز أن يحمل على شيء من ذلك خطاب الله سبحانه وتعالى ولا خطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يجب حملهما على صريح اللغة، أو عرفها، أو عرف الشرع، وقد ثبت أن الشرع قد اقتضى أن يكون اسم اليمين على الإطلاق يتناول اليمين بالله تعالى، فوجب أن يحمل عليه خطاب الله دون ما سواه،
ومما يدل على ذلك أنه لا خلاف في أن من حلف بالكعبة، أو بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يكون مولياً، فكذلك من حلف بالطلاق والعتاق والحج وغير ذلك،(59/14)


والعلة أنه حلف بغير الله تعالى فوجب أن لا يكون مولياً، على أن أبا حنيفة لا يخالف في أن الرجل لو قال: إن جامعتك، فعليَّ كذا ركعة من الصلاة، أنه لا يكون مولياً، فكذلك سائر ما ذكرناه للعلتين اللتين ذكرناهما ، وحكي عن مالك أنه قال: إذا حلف أن لا يجامعها غير قاصد إلى مضارتها كأن يكون بها علة تصده عن الجماع ونحوه، فإنه لا يكون مولياً، فيمكن أن يقال(1): إنه إذا حلف بالطلاق على هذا الوجه أنه لا يكون مولياً، فكذلك إذا حلف به على غير ذلك الوجه، والعلة ما ذكرناه، والأصول شاهدة لنا؛ لأنا وجدنا كل يمين يحصل بها حكم منفصل عنها، كإسقاط حق المدعي، أو إثبات حق المدعَى عليه، أو لزوم الكفارة، إنما هو اليمين بالله تعالى دون ما عداه؛ لأن الحلف بالطلاق يقع نفسه بحصول الشرط الذي عُلِّق به، وكذلك العتاق والنذر، فلما ثبت ذلك، وجدنا الإيلاء يُثبت حكماً منفصلاً عنه، كالوقف أو الطلاق، وقوعه أو لزومه على حسب الخلاف فيه، وكذلك الكفارة، وجب أن يكون ذلك يميناً بالله تعالى دون ما سواه.
مسألة: [في الإيلاء بغير ذكر المدة]
قال: وإذا حلف الرجل أنه لا يجامع امرأته ولم يذكر المدة، كان ذلك إيلاء. وهذا مما رواه يحيى عليه السلام في (الأحكام) (2) عن القاسم عليه السلام، ودل عليه بقوله: فيه الإيلاء، أن يحلف على أربعة أشهر فما فوقها مع تنصيصه على أن إطلاق اليمين تقتضي التأبيد، والمطلق ليمين الإيلاء مول للتأبيد، فهو مول لأكثر من أربعة أشهر.
__________
(1) في (أ): يقال له.
(2) انظر الأحكام 1/434.(59/15)

4 / 149
ع
En
A+
A-