باب القول في خيار البيعين
البيعان بالخيار مالم يفترقا تفرق الأقوال، ولا معنى لتفرق الأبدان.
وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك. وقالت الإمامية: التفرق تفرق الأبدان، وبه قال الشافعي.
والذي يدل على صحة قولنا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقد عقداً البيع بينهما من غير شرط الخيار فلو جعلنا لهما الخيار كنا أجزنا لهما ترك الوفاء بما عقدا، وذلك خلاف ما تضمنت الآية.
ويدل على ذلك قول الله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}، والتجارة هي البيع والشراء، وقد حصلا عن تراض فوجب أن يجوزللمشتري أكله واستهلاكه، والقول بخلافه للخيار مخالف للآية.
وقال: (وأشهدوا إذا تبايعتم)، والغرض به التوثقة وإثبات الخيار له بعد العقد، والإشهاد أبطال للتوثقة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه)، فتضمن ذلك أجازة البيع بعد القبض من غير ذكر الخيار.
ومثله ما روي: (أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري).
وروي عنه عليه السلام: (أنه لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)، فعلق العتق بالشراء من غير اشتراط الإفتراق بدل على أن الملك يستقر بنفس العقد.
ويؤكد ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون عند شروطهم)، لأن كل واحد منهما دخل في العقد للتمليك بنفس العقد.
وروي: (من باع عبداً فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، فجعله للمبتاع بالشرط من غير التفرق.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (البائعان بالخيار مالم يتفرقا)، فجعل لهما الخيار قبل التفرق.(73/1)
قيل له: وقد روي: (المتبايعان بالخيار)، وهذان الإسمان لا يكونان ثابتين لهما إلا في حال الفعل، لأن اسماء الفاعلين إنما يكون اسماء للفاعلين على الحقيقة في حال الفعل، وأما بعد تقضي الفعل، فإنما يجري ذلك الإسم عليهما على سبيل المجاز، وهذا كقول القائل في رجلين: إنهما متحاربان أو متقاتلان أو متضاربان في أن ذلك لا يستعمل إلا في حال كونهما كذلك.
يؤكد ذلك أنهما لو تفاسخا بعد البيع كانا متفاسخين فلو كان الإسم يبقى بعد الفعلا كانا في الحقيقة متفاسخين متبايعين، وذلك تناقض فصح ما قلناه.
وإذا صح ذلك ثبت أن المراد بقوله: (البيعان)، وقوله: (المتبايعان)، االمتساومان لأن السوم يعبر به عن البيع كما روي عنه عليه السلام: (لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه)، وفي خبر آخر: (لا يسومن على سسوم أخيه)، فعبر عن السوم تارة بالبيع، وتارة بالسوم فعلم أن البيع يستعمل في السوم، وروى نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يفترقا إلا بيع الخيار)، فلم يجعل بينهما عليه السلام بيعاً حتى يفترقا، وقد سماهما متبايعين، فعلم أن المراد به المتساومان. إذ لا خلاف أن البيع واقع بنفس عقد الإيجاب والقبول.
قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الِّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةِ}، وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِيْنَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا}، وقال: {إِنَّ الَّذِيْنَ فَرَّقُوا دِيْنَهُمْ وَكاَنُوا شِيَعاً}.
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، والمراد بجميع ذلك تفرق الأقوال فوجب أن ينقطع الخيار عند حصول أول جزء منه، كما ان إباحة الأكل والشرب لما جعلت غايتها للصائم وقت طلوع الفجر كان أول جزء من الفجر قاطعاً للغاية، وذلك حكم العادات أأجمع.(73/2)
فدل ذلك على إنقطاع خيارهما عند حصول تفرق االأقواال على أن تفرق الأبداان لا تأثير له مع عدم تفرق الأقوال فبان أن الحكم يتعلق بتفرق الأقول، إذ التاثير له دون تفرق الأبدن لم يجب فيه ما ذهب إليه مخالفنا، لأنه يحتمل أن يكون المراد به أن البائع إذا قال: بعتك فللمشتري قبوله في المجلس مالم يفارقه إذا لم يعرضا عنه، ويأخذا في غيره، وللبائع االرجوع فيه مالم يقبله المشتري فإن افترقا قبل القبول عن المجلس بطل لإيجاب، ولم يكن للمشتري القبول فيكون هذا الخيار مقصوراً على المجلس.
فإن قيل: التفرق إذا أريد به الحقيقة فهو تفرق الأبدان دون تفرق الأقوام فعليها يحمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك قوله: (البيعتان بالخيار)، فهذا الإسم لا يكون حقيقة إلا بعد حصول البيع.
قيل له: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك قول الله تعالى حملهما على ما جعله العرف حقيقة دون ما يوجبه أصل اللغة والإشتقاق والعرف عرفان عرف اللغة وعرف الشرع كما قلنا ذلك في الغائط والدابة والصوم والصلاة.
فإذا ثبت ذلك فقد علمناا أن عرف اللغة قد جعل التفرق حقيقة في الأقوال إذا استعمل فيما يكون مخاطبة ومفاوضة حتى لا يعقل عند الإطلاق إلا ذلك فوجب حمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيماا اختلفنا فيه على تفرق الأقوال، كما يجب أن يحمل قول القائل: فلان وفلان اتفقا في كذا ثم افترقا على تفرق القول، لتعلق ذلك بالأقوال، كذلك البيعان فلا بد من أن يدخلهما المجاز على المذهبين جميعاً، لأن حقيقة الأسماء المشتقة من االأفعال لا تستعمل حقيقة في الفاعلين إلا حال الفعل كالمصلي والقائم والقاعد، وما جرى مجاها، والبيع لا يحصل إلا بخروجهما من حقيقة البيعين فلا بد من أن يكون ذلك على مذهبهم مجازاً، كما أنه إذا استفمل في اسم السوم كان مجازاً، فلما استويا في هذا الوجه لم يكن لهم به تعلق.(73/3)
فإن قيل: فقد روي في بعض الأخبار: (حتى يفترقا عن مكانهما الذي عقدا فيه).
قيل له: ذلك محمول على الوجه الذي قلناه من خيار الشرط في المجلس.
فإن قيل: فقد روي: (البيعان بالخيرار مالم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه إختر).
قيل له: معناه أن الخيار يبطل بالتفرق إلا أن يجعل أحدهما لصاحبه شرطاً كان الخيار ثابتاً، أو يستعمل بمعنى إلا أن كما تقول: لا تدخل الدار أو يأذن لك صحبها معناه إلا أن يأذن لك، وكذلك تقول: لا تصل أو تتطهر، معناه إلا أن تتطهر، ويدل على ذلك أن البيع هو الإيجاب والقبول فمتى حصلا أوجب أن يكون البيع تاماً لا خيار فيه دليله الخلع والنكاح.
والمعنى أن كل واحد منهماا إنما هو القبول والإيجاب فلم تفتقر صحة واحدة منهما إلى غير القبول والإيجاب فكذلك البيع.
ويشهد له العتق على مال والكتابة، وإن شئت قلت: هو عقد معااوضة فيجب أن لا يفتقر صحته إلا إلى الإيجاب والقبول، وليس يلزم على ذلك الهبة إذ الهبة عندنا غير مفتقؤة إلى القبض وصحتها بالقبول والإيجاب عندنا فقط.
وأيضاً لو كان الخيار موجباً عن عقد البع كان يجب أن لا يصح عقد االصلاف، لأن من شرط صحته أن يتفرقا وليس بينهما شيء، كما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الصلاف لا بأس مالم يفترقا وبينهما شيء فلو لم ينبرم العقد حتى يفترقا وكان التفرق وبينهما خيار يفسد الصرف كان لا يصح الصرف بتة على وجه من الوجوه.
ويمكن أن يجعل الصرف أصلاً نقيس عليه فنقول: لما كان قعد الصرف لا يفتقر صحته إلى تفرق الأبداان، ولا يثبت به الخيار فكذلك ما اختلفنا فيه.
والمعنى أنه عقد بيع أو عقد معاوضة.
وحديث مجاهد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا باع أو اشترى خير صاحبه دليل على ما بيناه، لأن الخيار لو كان ثابتاً بالعقد لم يكن للتخيير معنى.(73/4)
ولا يجوز أن يقال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يريد قطع الخيار لأنه من الإستقصاء والتشدد، وخلاف التفضل، وخلاف ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يحب العبد يكون سهل البيع سهل الشراء).
مسألة:
قال: ولو أن رجلاً اشترى ثياباً أو سلاحاً أو طعاماً أو حيواناً أو غير ذلك من غير أن كان رآه ورؤية مثله فله الخيار رؤيته. فإن شاء فسح البيع، وإن شاء أمضاه.
وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول زيد بن علي عليهما السلام، وأحد قولي الشافعي كذلك، وله قول آخر: إن البيع باطل إذا لم يكن رأي المبيع والحجة فيما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَمَ الرِّبَى}، ولم يشترط الرؤية، وقال: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}، وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}، ولم يذكر الرؤية.
ويدل على ذلك ماروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن تلقي الجلب وقال: (لاتلقوا الجلب فمن تلقى فاشترى شيئاً فهو بالخيار إذا أتى السوق)، ولا وجه لهذا الخيار إلا خيار الرؤية، لأن العادة أن المتلقي يشتري الطعام وهو في الوعاء، ثم يفتحه إذا دخل السوق، ولم تجر العادة بأن تفتح الأوعية، وهي على الظهر، وهم في الطريق.
وروي أن عثمان باع مالاً بالكوفة من طلحة بن عبيدالله فقال طلحة: لي الخيار لأني اشتريت مالم أره، وقال عثمان: لي الخيار لأني بعت مالم أره فحكما بينهما جبير بن مطعم فقضى بالخيار لطلحة، وأجمع هؤلاء الثلاثة على أن الإنسان يجوز له شراء مالم يره، ولا يعرف مخالف في الصحابة فجرى مجرى الإجماع.
فإن قيل: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر، وشراء مالم يره من الغرر، ونهى عن بيع الملامسة: وهو الثوب المطوي.
قيل له: ليس يدخل في الغرر بأن لا يكون المشتري رآه فقد يعلم الشيء من غير الرؤية، ويتحقق، ويخرج عن حد الجهالة.(73/5)