الأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع اللحم بالحيوان، وكان القياس أن ذلك يجوز، لأن الحيوان لايجري فيه تحريم التفاضل على ما مضى القول فيه، لأنه لا يحصل فيه وصفاً علتي الربا.
ألا ترى أنه لا يتأتى فيه الكيل والوزن، بل لا يحصل فيه إلا الجنسية، فكان الواجب أن يحمل ذلك على المذبوح، واللحم الذي من جنسه كما كان يذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف. ثم روي أن جزوراً نحرت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني منه بهذا النعاق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا.
وقيل: ذلك عن ابن عباس أيضاً. ولا يجوز أن يكونا قالاه إلا نصاً إذ النظر لا يقتضيه.
على أنهما لو كانا قالا ذلك اجتهاداً فلا يعرف فهما مخالف في الصحابة فجرى مجرى الإجماع. فلما ثبت ذلك حملنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك.
وقلنا: لا يجوز بيع اللحم من أي حنس كان بشيء من الحيوان الذي يؤكل لحمه، وبقينا مالا يؤكل لحمه على القياس.
وقلنا: بإجازته لأنهما قلا لا يصلح لحم الجزور بعناق فكأن فيه أن اللحم وإن كان من جنس مخالف لذلك الحيوان، فإنه لا يجوز أن يشترى به إذا كان مما يؤكل لحمه.
وما قلنا في هذا به قال الشافعي.(71/13)


بيع المزابنة
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع المزابنة وهي بيع التمر في رؤس النخيل بتمر مكيل، أو غير مكيل، وأشار القاسم إلى أنه يجوز في العريا.
قال: وهي النخلة والنخلتان والثلاث والعشر.
قال: والعرايا هي العطايا يعطيها صاحبها فعجني رطباً.
والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع المزابنة، وهي بيع التمر في رؤس النخل بتمر، وروي ذلك بطرق شتى.
ورواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المحاقلة والمزابنة).
ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر إلا مثلاُ بمثل كيلاُ بكيل، ولأنه لو كان موضوعاً على الأرض كان لا يجوز أن يباع بتمر مجازفة حتى يستويا في الكيل، فكذلك إذا كان على رؤس النخل، وهذه الجملة لا خلاف فيها، وهو أيضاً مقيس على ما زاد على خمسة أوسق.
والعلة أنه بيع التمر بالتمر من غير تجقق المساواة بينهما، أو لأنه بيع تمر على لاؤس النخل بتمر.
واختلف في العرايا فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن العرية هي العطية، وبه قال مالك.وإياه عنى القاسم فيما ذكر.
وقال الشافعي: هي بيع التمر على رؤس النخل بخرصها من التمر فقال: وهي مشتقة من أعراء بعض النخيل من بعض، وهو الإفراد، قال: وذلك جائز فيما دون خمسة أوسقق فكل ما ذكرنا من الأثر والنظر يدل على فساد ما قال، وفيه أيضاً أنه مقيس على بيع الحنطة في المزرعة بخرصها حنطة قد حصدت بعلة أنهما جنس مكيل فلا يجوز بيع ببعض إلا مثلاً بمثل.
فإن قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في العرايا، روي عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في العرايا ونهى عن بيع التمر بالتمر).
وحدثنا زيد بن ثابت: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في العرايا).(72/1)


وروي عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في العرايا بالتمر أو الرطب، وروي نحوه عن جابر وأبي هريرة: أنه صلى الله عليه وآله وسلم رخص في العريا فيما دون خمسة أوسق، أوفي خمسة أوسق، شك الراوي.
قيل له: هذه الأخبار تحتمل ثلاثة أوجه: أحدهما ـ ما ذكره أبو العباس الحسني رضي الله عنه في النصوص أن معناه أن يعطي الرجل نخلات من النخيل لتجني رطباً بثمن مؤجل، وفيه ترخيص للمحتاجين الذي يشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الرطب يأتيهم ولا نقد في أيديهم فرخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شراء ما دون خمسة أوسق بثمن مؤجل لئلا يلحقهم الضرر بإخراج العشر، لأن من أصل يحي عليه السلام أن المشتري إذا اشترى ما يجب فيه العشر كان عليه أن يخرج العشر، وأن يرجع بثمنه على البائع.
قال: والخرص راجع إلى ما على رؤس النخل، ومعنى الخرص الإحتراز من لزوم العشر.
وحكى الطحاوي، عن عيسى بن أبان أنه قال: إن العرية هي الهبة قبل التسليم، وهي لم تصر ملكاً للمعرى، قال: ولا يجوز لأحد أن يأخذ بدلاً لما لا يملك فيملكه، والتمر الذي يأخذ المعري بدلاً عن عريه لم يملكها. يطيب له، ويملكه بهذه الرخصة التي في هذا الخبر.
وذُكِرَ فيه وجه ثالث، وهو أن المعري هو الواهب لتلك النخل أراد الرجوع قبل التسليم، وقد كان حين وهب تضمن تلك الهبة التسليم فكأنه وعده، ويكره للمسلم الإخلاف في الوعد، وكذلك للموهوب له أخذ عوض مالم يملكه فأجاء الخبر ذلك، فأخرج المعري من ان يكون خالف الوعد، وأجاز للمعري تناول مالم يملكه، ويسمى ذلك بيعاً على طريق المجاز لاشتماله على المعاوضة.
فإن قيل: كيف يستقيم هذان الوجهان على مذهبكم وعندكم أن الهبة تصح من غير قبض.
قيل له: يصح ذلك من وجهين: أحدهما ـ أنا نجوز الرجوع فيها وإن كرهناه.
فدل هذا الخبر على أنه لا يكره إذا عوض المعري.(72/2)


والثاني ـ أنا لانصحح الهبة إلا بالقبول فنجعل بدل قولهم التسليم القبول كان ذلك قبل القبول فتستتم التأويلات والله أعلم.
فإن قيل: لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نهى عن بيع المزابنة ورخص في العرايا) وجب أن يكون ذلك مستثنى من جملة البيع.
قيل ل: لا يجب ذلك، لأن كل واحدة من اللفظتين يستقل بنفسه، فلا يجب أن يجري مجرى الإستثناء، ويجوز أن يكون بعض الرواة تأول ذلك على ما قاله الشافعي، واستثنى ذلك من عند نفسه.
فإن قيل: فما فائدة ذكر الأوساق على التأويلين الآخرين؟
قيل له: يجوز أن تكون تلك الرخصة اتفقة في ما دون خمسة أوسق فروى أبو هريرة على ما شاهد لا لأن للأوساق فيه تأثيراً، على أن حمل الخبر على ما قلناه أولى، لأن سائر الأخبار تعضده، والقياسات تؤكده، والأصول تشهد له.
لأن شيئاً من المكيل ولا الموزون عندنا، ولا المكيل عند الشافعي لا يجوز بعضه ببعض خرصاً، بل لا يجوز إلا مع العلم بالمساواة.
ويؤكد ذلك ما روي: (تحققوا الخرص فإن في المال العرية والوصية)، وقد علمنا أن المراد به ليس هو البيع، لأن التخفيف (التحقيف) لا يجب من أجل البيع.
فإن قيل: فقد روي أنه رخص في بيع العرايا، وشيء مما ذكرتموه ليس ببيع؟
قيل له: لا سمتنع أن يجري عليه اسم البيع كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}، ثم قال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِيْ بَايَعْتُمْ بِهِ}، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِيْ لَهْوَ الْحَدِيْثِ}، وقال: {وَلا تَشْتَرُوا بَآيَاتِيْ ثَمَناً قَلِيْلاً}، ومنه قيل للبيعة بيعة وكل مستعمل على طريق التجوز على التشبيه بالبيع، وكذلك ما سألتم عنه للأدلة التي بيناها.(72/3)


على أنهم إذا قالوا بذلك قالوا بتخصيص العلة مع إنكارهم له، لأنهم لا يجيزون المأكول الجنس إلا مثلاً بمثل، ولا يجيزون الوصول إلى التماثل بالخرص فقد أجازوا في هذه المسألة فقد ناقضوا أصولهم.
والبيع على غير المماثلة والتوصل إلى المماثلة بالخرص.
[توضيح المراد بلإفتراق في البيع](72/4)

38 / 149
ع
En
A+
A-