قيل له: هذا الإعبار لا يجوز على ما ذكرت لكونه مؤدياً إلى فساد العقد،، وعقود المسلمين محمولة على الصحة ما أمكن، وإنما يعتبر هذا الإعتبار في العقود التي لا يؤدي هذا الإعتبار إلأى فسادها.
ويدل على ذلك أن المكيل والموزون إذا لاقى جسه فإنما يكون قميه مثله مقدارهن لأن الشرع اقتضى ذلك،، إذ حضر الشرع بيعه بأكثر منه، والمتبايعان دخلاً فيه على حكم الشرع فوجب أن يكون محمولاً على ما اعتبرناه من كون الزبد المشترى به مقسوماً على أن يكون مافي اللبن منه بمثله والباقي منه ثمناً للبن دون الإعتبار الذي ذكرتم.
وأيضاً عقد البيع إذا وقع محتملاً لوجهين: أحدهما ـ إذا حمل عليه فسد البيع، والثاني ـ إذا حمل عليه صح البيع يجب حمله على الوجه الذي يصح البيع لوجوب حمل عقود المسلمين على الصحة ما أمكن.
دليله ـ إذا باع بدراهم مطلقة، ولم يصف النقد لا خلاف أنه يجب حمله على نقد البلد الذي تجري التعامل به، وإن كان حمله على غير ذلك من النقود، ولأن حمله على نقد البلد يوجب صحة البيع، وحمله على غير ذلك من يوجب فساد البيع فكذلك ما اختلفنا فيه يجب حمله على الإعتبار الذي قلنا، ونجعل ذلك كأنه نطق به ليصح البيع، ولا يجب حمله على الإعتبار الذي ذكره المخالف لئلا يؤدي إلى فساد البيع.
ويشهد لذلك جميعاً الأرطال والأمناء والمكاييل إذا بيع الشيء على ذلك، أو أسلم يجب حمله على ما يجري التعامل به ليصح العقد دون ما عداه لئلا يفسد العقد.
فإن قيل: العرف كالنطق، فلذلك وجب حمله عليه.
قيل له: وما ذكرنا أيضاً كالمنطوق به، لأنهما دخلا في العقد لتصحيحه فصار ما يصحححه كالمنطوق به إذا كان يحتمله.
فإن قيل: فهلا حملتم بيع درهمين بدرهم على أن درهم بدرهم، والدرهم الثاني هبة.
قيل له: لأن عقد لم يدخل فيه فلا يصح أن يلزمهما، وليس كذلك مسألتنا، لأن ما صلافنا العقد إليه حد الوجهين الذين احتملهما العقد فلم نلزمهما عقداً لم يدخلا فيه.(71/3)


فإن قيل: جوزوا على اعتباركم صاعاً من تمر بصاعين منه على أن يكون نوى أحدهما بتمر صاحبه ونواه بتمر الأخر؟
قيل له: لا يجوز ذلك لأنه يؤدي إلى خلاف النص الوارد، وإذا سقط ذلك الإعتبار في موضع لكونه مؤدياً إلى خلاف النص لم يجب أن يصقط في كل موضع.
ألا ترى أن تقسيط الثمن لما سقط في الموضع الذي اختلفنا فيه لكونه مؤدياً إلى فساد البيع لم يجب أن يسقط في كل موضع، وكذا القياس قد سقط في مواضع لأحوال ثم لا يجب سقوطه في كل موضع.
وأيضاً النوى لا حكم له إذا كان في التمر بدلالة أنه لا فرق بين التمر الذي يغلظ نواه، وبين التمر الذي يدق نواه.
فإن قيل: فجوزوا بيع مائة دينار في كاغد بمائتي دينار على أن تكون المائة بالمائة، والمائة الباقية بالكاغد؟
قيل له: إذا كان الكاغد مما يجوز تقويمه، ومما يفصد بالبيع، وقال: بعتك المائة مع الكاغد الذي فيه صح ذلك، وإن كان الأمر بخلافه لم يصح.
على أن يحي بن الحسين عليه السلام قال في كتاب الصرف: إن أراد أن يبدل ديناراً بدينارين فأدخل بينهما قطعة فضة لم يجز، فإن حمل هذا على ظاهره لم يجز ما سألتم عنه، لأن ظاهره يقتضي أن لا يجوز البيع إلا بأن يرضياه، وبيع الكاغد بخمسين ديناراً لا يرضى بالتفرق عليه، وإن حمل على أنه أراد إذا كان الفضة ضعيفة لا يصح تقويمها بالذهب كان الجواب بحسب ذلك.
فإن قيل: روي عن فضاالة بن عبيد أنه اشترى يوم حنين قلادة فيها ذهب بالذهب فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تبيعوها حتى تفصل)؟
قيل له: ذلك محمول على أن قدر الذهب المشتري به لم يكن معلوماً أنه زائد على الذهب الذي كان في القلادة فقد روى الجصاص بإسناده عن فضالة بن عبيد أنه قال: غشتريت قلادة فيها ذهب وخرز يوم حنين باثني عشر ديناراً ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (لا تباع حتى تفصل)، فكان النهي للمعنى الذي ذكرنا.(71/4)


وعلى هذا يحمل قوله في الأحكان في باب الصرف في المنع من بيع السيف المحلي بالفضة.
بيع الزبد بالسمن ونحوه
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الزبد بالسمن، ولا بيع اللبن بالحليب باللبن المخيض، وهو الذي فيه الماء، وبه قال الشافعي، ويقرب أن يكون قول أبي يوسف ومحمد،
ووجه أن الزبد فيه أجزاء من اللبن تذهب عند الإذابة فينقص عن السمن في تلك الأجزاء مما لا حكم لها ولا قيمة فيشبه الرطوبة التي في الرطب التي من أجلها منع من بيع الرطب بالتمر.
وهذا هو الوجه في المنع من بيع اللبن الحليب باللبن المخيض الذي فيه الماء.
وهذا كله مبني على منعنا بيع الرطب بالتمر.
بيع الرطب بالتمر
مسألة:
قال: ولا يجوز بيع الرطب بالتمر، وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي.
قال أبو حنيفة: هو جائز مثلاً بمثل يداً بيد.
والأصل فيه ماروي عن زيد أبي عياش، عن سعد بن أبي وقاص قالك شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الرطب بالتمر؟ فقال: (أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم قال لا اذن)، وكرهه، وهذانص في المنع من بيع الرطب بالتمر، وفيه تنبيه على العلة التي من أجلها منع البيع، وهذا يبطل اعتراض من يعترض الحديث بأن يقول: لامعنى لاستفهام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماهو معلوم ضرورة، لأن ذا ليس باستفهاماً بل هو تقرير على أمر ينبه به على علة المنع، وهذا مثل قول الله عز وجل لموسى صلى الله عليه: (وما تلك بيمينك يا موسى)، أراد تقريره على هذا الحديث بأن زيداً أبا عياش مجهول وليس كذلك، فإن هذا الحديث قد رواه العلماء وستعملوه وأخذوا بموجبه، ولم يطعنوا فيه، فصح أنه لم يكن عندهم مجهولاً.
على أن أمره أشهر وأظهر من أمر أبي االحوراء السعديء وحديثه فلا وجه لهذا الطعن.
على أنه قد روي عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع التمر بالرطب أو بالتمر كيلاً. قد شككت في اللفط، وعن بيع العنب بالزبيب كيلاً.(71/5)


فدل ذلك على ماقلناه؛ لأن اللفظ وإن كان عن بيع التمر فالمعنى أنه كان أحدهم رطباً إذ لو لم يكن كذلك فلا خلاف في جوازه يدل عليه قوله: ( عن بيع العنب بالزبيب كيلاً).
فإن قيل: فقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الرطب بالتمر نسية ـ فدل ذلك على أن علة المنع هو النسأ؟
قيل له: هذا لا يمنع ما ذكرناه، ولا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر يداً بيد ونسأ جميعاً فيكون منع من بيعهما يداً بيد للعلة الأولى، ومنع من النسأ للجنسين.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن عليه عليهم االسلام أنه كره بيع التمر الحديث بالعتيق.
فإن قيل: كان في الحديث فضل رطوبة فكذلك أنواع التمر؟
قيل له: ذلك قدر يسير من التفاوت لا معتبر به، لأن مثله يكون في المكيل والموزون، ولهذا قالت العلماء: إن الوزن أخص من الكيل، ولهذا أجازوا الذهب بالذهب وإن وزناً بالميزان وإن جوزنا أن يقع فيه تفاوت لو وزنا بالطفان لم يضر ذلك القدر فبان أن مثل ذلك معفو عنه، وليس كذلك حال الرطب إذا جف، لأنه يتنااقص تناقصاً بيناً، ويقع بين حالتيه في النقصان تفاوت عظيم.
وكذلك العنب والزبيب فلم يجب أن يكون حكمهما حال التمر الحديث والعتيق وأنوااع االتمور.
فإن قيل: إذا كان الرطب والتمر متساويين في الحاال فلم وجب أن يعتبر الحال المآل نخ؟
قيل له:: لسناا نسلم أنهما متساويان في التمر االجاف، وإنما ساوه بالرطوبة التي هي أجزاء الماء فسقط ما سألتم عنه؟
قال: ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق. والمراد به إذا كان الدقيق دقيق الحنطة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، ولا أحفظ فيه خلافاً.
ووجهه أن أجزاء الحنطة تكون أكثر لأن الحنطة إذا طحنت ازداد كيلها، وهذا مما يوضح قولنا في الرطب بالتمر والعنب بالزبيب.(71/6)


قال: ولا بأس ببيع العجين، أو الخبز بالدقيق أو الحنطة، وإن حصل فيه التفاضل، وذلك أنه ليس فيهما إلا الجنسية لأن الخبر قد خرج عن االكيل إلى أن صار موزوناً، وكذلك العجين فلم يحصل فيهما إلا جزء من علة الربا، وإنما يمنع النسأ دون التفاضل.
قاال: ولا يجوز بيع الحنطة المبلولة بالحنطة المقلوة، وذلك لما بينهما من التفاوت، لأن المبلولة أجزاؤها أقل من أجزاء المقلوة، لأن المبلولة لا تساوي المقلوة لما فيها من أجزاء الماء. فالكلام في الرطب بالتمر.
بيع الأقمشة وبيان أجناسها)مسألة:
قال: والثياب مختلفة الأجناس، فالخز مع تنوعه جنس واحد، وكذلك المروية جنس واحد، وكذلك القصب والوشي.
قال: ولا بأس ببيع الثياب إذا اختلفت أجناسها واحداً بواحد، وواحداً باثنين معجلاً ومؤخراً. فإن ككان من جنس واحد جاز التفاضل وحرم النسأ، وكذلك القول في غير الثياب.
ما قلناه من الإختلاف والإتفاق في أجناس الثياب لأنها فروع من أصول هي مختلفة الأجناس، لأنها تكون من القطن والكتان والإبريسم والخز ونحو ذلك.
والذي يبين أنها أجناس مختلفة أن الزكااة تجب في بعضها ولا تجب في بعض، لأنها لا تجب في الإبريس والخز والصوف، وتجب في الكتان والقطن. ثم االقطن والتكان لا يجب ضم بعضها إلى بعض كما لا يجب ضم الشاء إلى الإبل والبقر، وذلك أنهما جنسان مختلفاان، وكذلك اختلاف أحوالهما على المناظر دال على ذلك، والإبريسم والخز والصوف أيضاً مختلفة، لأن الصوف من الضأن، وهو مخالف للدود والخز، وكذلك االدود والخز مختلفان لما ذكرنااه.
فإذا ثبت ما قلناه في اصول الثياب ثبت ذلك في الثياب مكا قلنا في اللحوم والألبان.
وأما ما ذكرنااه من كيفية جواز بيع بعضهاا ببعض فقد تقدم القول فيه فلا وجه لإعادته.
قال: والحديد كله جنس واحد، وكذلك النحاس والرصاص.
ووجهه أنها لا تختلف على الناظر في المعاني المقصودة بها إليها، وفي الإسم الأخص على ما مضى القول فيه فلا وجه لإعاادته.(71/7)

36 / 149
ع
En
A+
A-